مدينة جوبا قبل أن يشد الرحال متجها إلي جوبا يتعين علي المرء أن يسد ثقوب الذاكرة فلا يتسرب شيء من تفاصيل الرحلة المثيرة للمدينة المثقلة بتاريخ طويل من الصراعات والحروب وأوشكت الآن أن تصبح عاصمة أحدث دولة في العالم بعد الاستفتاء الذي يبدأ اليوم وتعلن نتيجته في الاسبوع الاول من الشهر المقبل.. حالفني الحظ فكان مقعدي علي الطائرة بجوار النافذة.. وتحت سماء صافية تهيأ لي مشهد في غاية الوضوح بينما تخترق الطائرة فضاء الزمان والمكان لتختزل المسافة من الخرطوم إلي عاصمة جنوب السودان في ساعة من الزمن. من النافذة الضيقة بدت الأرض ملفوفة برداء فضفاض يكتسي بثلاثة ألوان الأسود والأصفر والأخضر.. الأول لون التربة الطينية والأصفر هو الرمال والأخضر هو الأراضي الزراعية والغابات.. وبمجرد الهبوط علي ارض المطار تطعننا العيون المحدقة بنظرات كالخناجر وتصدمنا الوجوه الذاهلة المنحوتة من الطين الذي لم يتيبس بعد.. فالناس في جوبا مثلهم مثل غيرهم من سكان جنوب السودان ما زالوا حديثي عهد بالزوار الأجانب وبالاهتمام الإعلامي العالمي علي الرغم من انهم يدركون اهمية الحدث »التاريخي« الذي يبدأ في منطقتهم عندما يتوجهون اليوم إلي صناديق الاقتراع للاختيار بين الوحدة أو الانفصال.. وكما يقول تيلار دينج مسستشار سلفا كير رئيس حكومة الجنوب فإن نسبة الامية في جنوب السودان تبلغ 90 في المائة.. ووسائل الاعلام من اذاعة وتلفزيون ليست في متناول كثيرين واذا وجدت الصحف فإنهم لا يعرفون القراءة.. لذلك لا غرابة في نظرات الدهشة التي تعلو وجوه الكثيرين وهم ينظرون الي افواج الزائرين الاجانب.. ورغم التواجد المكثف لقوات الامن والثكنات العسكرية التي تشبه معسكرات الميليشيات اكثر من الجيوش النظامية فان اول نصيحة توجه للزائر حين تطأ قدماه ارض المطار هي عدم مغادرة الفندق ليلا او نهارا بلا سيارة او بمفرده. فحوادث السطو المسلح علي الاجانب من اكثر الجرائم انتشارا. ومعظم السيارات في المدينة من نوع عربات الدفع الرباعي يعود بعضها الي بعثة الاممالمتحدة والبعض الآخر لمسؤولي الحكومة لاستخدامها في طرق جوبا التي تشبه ممرات الادغال. اول لافتة تقع عليها عين الزائر في جوبا هي لافتة العيادة الطبية المصرية علي بعد خطوات من المطار. عندما لاحظ المرافق اهتمامي سارع بالقول إن كل العاملين فيها من المصريين وانها تقدم العلاج مجانا والكشف باسعار رمزية وان الناس يفضلونها علي مستشفي جوبا الحكومي. ورغم التحذيرات سألت أحدهم يدعي دينج "هل تعرف أن الاستفتاء القادم هو حكم نهائي في قضية بحجم وطن.. وهو وطن كبير اسمه السودان يحمل حتي اليوم صفة اكبر دولة في افريقيا والعالم العربي من حيث المساحة؟ أجاب "ساصوت لصالح الانفصال. عشنا حياة بائسة مع الوحدة.. كثيرون في هذه البلاد يعانون لكننا الاشد بؤسا والاكثر حرمانا. نريد أن نجرب الاعتماد علي انفسنا." وقال اخر قد علا الشيب مفرقه وشق الزمان الأخاديد علي وجهه إن سنوات الحرب التي استمرت 20 عاما مع الشمال ليست السبب وراء ما يحدث الان ولكنه اهمال الشمال للجنوبيين. اما فيولا لاسو وهي جنوبية ولدت في الخرطوم وعادت مؤخرا الي الجنوب فهي تشعر بالضياع لان وطنها في طريقه للانقسام.. لكنها مع ذلك ستصوت للانفصال. قالت ان اتفاقية السلام حققت الاستقرار لكن ماذا يفعل الاستقرار بدون تنمية وبدون حياة كريمة؟ وأضافت بكلمات تقطر مرارة "لا يوجد احد في العالم يرغب في ان يري وطنه ينقسم امام عينيه ويجد نفسه مضطرا للمشاركة في هذه الجريمة". ومضت تقول "امي لم تغادر الخرطوم الا منذ اسبوعين ولم تكن ترغب في مغادرتها ابدا". وتوضح ان المشكلة تتمثل في طريقة التفكير القبلية التي يتم فيها تصنيف الناس الي شمالي وجنوبي وشرقي وغربي. وأضافت وفي عينيها نظرة زائغة تجسد حالة التشتت التي تعيشها هي وكثيرون مثلها انها تخاف من المستقبل لان المشاكل لن تختفي حتي لو حدث الانفصال وستظهر قوميات وقبائل متصارعة في الشمال والجنوب لتستمر هذه الحلقة الملعونة إلي الأبد. وتضيف فيولا التي تبلغ من العمر 32 عاما انها من جيل ولد وتربي في الحرب وعاني من الفقر والبطالة وعادت اليوم غريبة يعتبرونها في الشمال جنوبية وينعتونها في الجنوب بالجبن لان اسرتها فرت اثناء الحرب الاهلية خوفا علي حياتها وحياة اخوتها. وتمثل قصة فيولا نموذجا لكثير من الجنوبيين الذين يعانون من التشتت بين حب الوطن وعدم القدرة علي التعايش معه لا في الشمال ولا في الجنوب.. وتقول ادوا الفونسو (28 عاما) انها ستصوت ايضا للانفصال ليس رغبة في تقسيم البلد ولكن لانها عانت من مشاكل كثيرة بسبب طريقة التفكير القبلية التي تضعها في مرتبة ادني من الاخرين علي حد وصفها. لكنها تضيف انها تتالم كلما تذكرت مسقط راسها في مدينة الابيض. وتقول "اشعر بأنني تركت جزءا مني هناك." اما تومبي ومايم فانهما يغردان خارج السرب.. قالا انهما متمسكان بالوحدة ولن يصوتا للانفصال. وتومبي جنوبي لم يغادر الجنوب قط لكنه خالط شماليين كانوا يعيشون معه في ولايته النيل الابيض وان حبه لهم هو سبب معارضته للانفصال. ويقول مايم ان اغلب الناس في الجنوب بسطاء انخدعوا بالشعارات الرنانة التي تعد بتخليصهم من استعباد العرب.. ويضيف ان من يرفعون هذه الشعارات يمتلكون القصور في اوروبا وامريكا.. ويتساءل ما معني ان يقيم وزير في فندق وبيته واهله في الخارج سوي أنه لا يشعر بالانتماء للوطن وبقول ان هؤلاء "يريدون ان يصنعوا لانفسهم مجدا ويدخلوا التاريخ علي حساب البلاد والعباد" وان الجنوب لا يستطيع الاستغناء عن الشمال لانه علي الاقل لا يستطيع العيش بلا بترول واذا توقف تصدير البترول سينهار والبترول يصدر بطريق الشمال.