في بلادنا ليس من العسير علي مراقب محايد أن يميز المثقف عن غير المثقف اعتمادا علي اللغة التي يتحدث بها كل منهما. في الوقت الذي يصعب عليه احيانا التفريق بينهما علي اساس السلوك العام وأعني به تلك الانساق الحياتية اليومية من الافعال وردود الافعال التي يأخذ الانسان بها نفسه بدءا من مغادرته باب بيته حتي عودته اليه.. انظر الي طريقة ركوب الحافلات والنزول منها وما بينهما من مهاترات.. وانظر ايضا بعين السخط ذاتها الي اصحاب العربات الخاصة الذين يأتون علي حق الاخرين المشروع في الطريق فضلا عن استعمالهم المشين لنوافذ تلك العربات كمنافذ لتوزيع العلب الفارغة والمناديل الورقية المستخدمة وقشر الفاكهة علي اسفلت الشارع الذي يتعرض الي غير ذلك من الاهانات المباشرة كالبصق علي وجهه وقضاء الحاجة علي جانبيه.. ان هناك فجوة كبيرة ملحوظة بين سلوكنا الخاص داخل جدران بيوتنا عن ذلك السلوك العام خارجها.. ففي الوقت الذي نولي قواعد النظافة في بيوتنا اهتماما كبيرا لا نجد حرجا يذكر في التعامل مع الطريق كصندوق قمامة مفتوح. وفي الوقت الذي نقيم العدل بين افراد العائلة في الحقوق والواجبات.. لا نجد غضاضة اذا ما وجدنا أنفسنا في طابور علي سبيل المثال- في التحايل والخروج علي الصف نافين حقوق من سبقونا في الوقوف.. فإذا ما تجاسر صوت رشيد علي التذكير برعاية الاصول وجد صاحب هذا الصوت نفسه امام سيل متكرر من الحجج المتهافتة التي يأنف تلميذ صغير من استعمالها للهروب من عقاب مدرسه.. والغريب اننا نجد من داخل ذلك الطابور أيا من المستهان بحقهم والمستهتر بشخصهم من يلتمس العذر ويبرر التجاوز ويمرر ذلك الجرم الصغير.. اننا ولا شك داخل بيوتنا كائنات تختلف اختلافا بينا عنا خارج تلك البيوت.. وكأننا نودع القيم الجميلة من العدل والرحمة والحب والايثار امانة وراء الابواب علي مشاجب ملابسنا المنزلية حتي نعود فنرتدي القيم والملابس معا. نفس ذلك المنطق الثنائي يحكمنا بين رعاية قصوي لكل ما هو ذاتي وعائلي ولا مبالاة عجيبة لكل ما هو غيري ومجتمعي. وكأننا نعيش في جزر منعزلة ترفض ان ينتظمها ارخبيل. في كل جزيرة تجد الجنة الانانية التي ترمي بمخلفاتها الجهنمية في الامواه المحيطة.. ان هذه الجزر لابد ان تعي ان حمايتها تبدأ من وراء شطوطها.. فالخطر الذي نرمي به الي خارج بيوتنا لابد ان يقتحم ابوابنا علينا انظر الي تلك الاعداد المتكاثرة من الاطفال المشردين الذين يفترشون الارصفة ويلتحفون سقوف الكباري العلوية وينتشرون في اشارات المرور ملحين في الطلب انهم قنبلة موقوتة باشتداد عودهم مجهزة للاستعمال ضد المجتمع الذي لم يعرهم اهتمامه ولا رعايته عندما لفظهم افراد انانيون.. ان هذا الجيش البائس يتسلل الينا من تلك الفجوة التي تتسع يوما بعد يوم بين البيت والشارع ان بيوتنا ليست مثل طفيليات الاميبا البدائية التي كلما استهلكت مصادر الغذاء من حولها. حملتها اقدامها الكاذبة الي بيئة جديدة اوفر رزقا وانقي وسطا ولكن بيوتنا خلايا ثابتة في نسيج هذا الوطن راسخة في سهله الفيضي. وانها اذا اصرت علي ان تتعامل معه بكل هذه الانانية.. فلا يعني اصرارها هذا إلا اصرارا علي الانتحار الغبي.. لننظر مباشرة في عين نيلنا الدامعة علي خد الوادي لنلاحظ ما يعانيه بفضل اهمالنا الجسيم لتاريخه الحيوي معنا.. وما يقاسيه من نكراننا لفضله منذ ان تربعت مصر علي قلب الخريطة. انه يمدنا باسباب الحياة ونحن دون وعي منا نضمر له الموت حيث ندس له السم في كل شط يحط عليه ماؤه.. وكأننا اصحاب تلك السفينة الحمقي الذين يثقبونها وهم في عرض البحر. ناسين فيما ننسي ان المعارك القادمة هي معارك المياه.. وان الحرب المقبلة هي حرب العطش ولكن نحن كثيرا لا نري الا لحظتنا المعاشة. وما تحت اقدامنا. ان قصر النظر الذي اصاب عيوننا جعلها لا تبصر أبعد من جدران حجراتنا.. لابد ان ندرك بشكل يومي ان المصلحة العامة هي تلك المصلحة التي تخصنا واحدا واحدا وجميعا في نفس الوقت فالحرص علي هذا الوطن لا تجدي معه ثنائية الهتاف من اجله والعمل من اجل انفسنا.. فلا نظافة للبيوت الا إنظافة الشارع.. ولا امان لها إلا بأمنه. لماذا نترك الانانية البغيضة واللامبالاه الأبغض كفيروسات تهاجم خلايانا من فجوات ما بين الخلايا حيث تسيطر بطريقتها الفيروسية علي مراكز التكاثر البروتيني لتصنيع المزيد من اشباهها علي حساب الجسم وصحته.. ان انسجته الاجتماعية بالضبط كمثل تلك البيولوجية في صراع دائم مع الجراثيم وعوامل التهرؤ.. والجسم او المجتمع الذي يهتم دائما بتجديد قواه.. ورعاية حيويته.. وتعظيم مناعته يراهن دائما علي مستقبل افضل واجيال اكثر صحة وأوفر وعيا.. اننا يجب ألا نستهين بالسلوك الاناني الذي يمتص فائق خيرات هذا المجتمع ويقايض عليها بشروره الشخصية. كما يجب ألا نستهين بأخلاق اللامبالاة الاجتماعية التي اصبحت للاسف شبه سائدة بيننا.. اننا يجب ان نتقصاها في كل أعراضها.. فإنها مرض عضال علينا ان نزيل كل اسبابه حتي تعود لمجتمعنا المصري عافيته ويعود للشخصية المصرية المرح الدال عليها.