مازلت أري أننا بحاجة شديدة إلي مجلس من كبار المستشارين المتخصصين يتبع مباشرة رئاسة الجمهورية يختص بالشئون الافريقية، ويساهم في رسم سياسة مصر الافريقية وخاصة علي العلاقة بدول حوض النيل بكل آثارها الخطيرة علي أمن مصر القومي. مجلس يضم خبرات هائلة في هذا المجال لا تتم الاستفادة منها كما ينبغي ولن تتأخر عن أداء واجبها كما فعلت لسنوات عديدة وفي مواقع مختلفة.. ويكفي أن نذكر هنا الدكتور بطرس غالي رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان والذي تولي الملف الافريقي لسنوات قبل اختياره أمينا عاما للأمم المتحدة، والوزير السابق الأستاذ محمد فايق مهندس علاقات مصر الافريقية في الستينات وصاحب العلاقات التاريخية بالقادة الأفارقة، وغيرها من الخبرات التي نحتاجها الآن ونحن نواجه ملف مياه النيل، ومستقبل السودان بعد استفتاء الشهر القادم الذي يتوقع الجميع أن تكون نتيجته انفصال جنوب السودان عن شماله، وغير ذلك من الملفات الخطيرة المتعلقة بافريقيا، والتي كنا لاعبا أساسيا في كل قضاياها وداعما أساسيا لكل حركات التحرير فيها، قبل أن نمر بفترة تراجع فيه دورنا وتحول فيه اهتمامنا بعيدا عن القارة السمراء، بينما كانت كل القوي الدولية والاقليمية تتصارع لتأمين مصالحها واكتساب النفوذ السياسي والاقتصادي، والحصول علي مواقع قدم في أسواق هائلة للتصدير، وأراض شاسعة للزراعة، وموارد طبيعية من البترول والمعادن. تراجع اهتمامنا بالقارة السمراء لسنوات، بينما كان هناك من يسعده ذلك، ومن يعمل جاهدا لدخول مناطق كانت مغلقة في وجهه، وإقامة علاقات مع دول كانت تقاطعه تضامنا مع مصر والعرب، وكان هناك من يحرض دول حوض النيل ضد مصر، ومن يعمل علي تقسيم السودان، ومن يتصور أن خلق المتاعب لمصر في الجنوب سوف يترك له الساحة ليعربد علي حدودها الشمالية والشرقية ويفرض كل العرب جميعا الأمر الواقع الذي يناسبه!! ولاشك أن الموقف الآن يختلف.. ومصر تتحرك علي كل الجبهات للدفاع عن مصالحها وأمنها القومي المرتبط بأمن السودان الشقيق، وبالتعاون مع دول حوض النيل وليس الصدام معها كما تأمل بعض القوي وفي مقدمتها اسرائيل التي تمارس كل أنواع التحريض في قضية تعرف أنها قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر، وأن مصر لن تتسامح مطلقا مع أي طرف يحاول دفع شركاء المصير في دول حوض النيل علي الصراع بدلا من التعاون المشترك لخير الجميع. الموقف الآن يختلف. ومصر تبذل جهودا كبيرة لتطويق الخلافات وتتعامل بحكمة حتي مع تصريحات مثل تلك التي تحدث فيها رئيس وزراء أثيوبيا ميليس زيناوي عن الحرب مع مصر، فتؤكد علي لسان الرئيس مبارك حرصها علي العلاقات الطيبة، وعدم تدخلها في الشئون الداخلية للدول الأخري، وتمسكها بالحوار لحل كل القضايا المعلقة حول توزيع مياه النيل التي لحسن الحظ تكفي احتياجات الجميع ولا تحتاج إلا لحسن التدبير والتعاون المشترك في استغلالها، وتوحيد الجهود لتحقيق التنمية المطلوبة في كل الدول التي تعيش علي ضفاف النهر العظيم. وخلال الأيام الماضية استقبلت القاهرة رئيس تنزانيا، ونائب رئيس بوروندي، وسافر وزير الكهرباء المصري إلي أوغندا لبحث تفاصيل برنامج مشترك لانتاج الكهرباء هناك بتكلفة مليار دولار، وخلال الأيام القادمة ستتواصل الاتصالات مع دول حوض النيل تمهيدا لاجتماع مهم في نهاية الشهر القادم لاستئناف الحوار حول نقاط الخلاف وتقريب وجهات النظر. وقبل ذلك سيكون الاستفتاء في السودان قد تم، وربما تكون هناك دولة جديدة في الجنوب قد أعلنت وألقت ظلالها علي ملف مياه النيل من ناحية، وعلي ملف السودان الشقيق من جهة أخري. وبصرف النظر عن مسئولية طرفي الصراع في الشمال والجنوب عن الانفصال القادم في الطريق، فلاشك أننا تحركنا متأخرين وفي ظروف صعبة، وفي ظل تآمر واضح علي وحدة السودان وتحرك قادة واشنطون لفرض التقسيم، ومع ذلك فليس هذا وقت توزيع الاتهامات بل وقت مواجهة الواقع والتعامل معه بكل المسئولية، وهنا يحتار المرء في هذه اللامبالاة العربية تجاه ما يحدث في السودان بكل آثاره الخطيرة. فهناك خطر اندلاع الحرب الأهلية سواء بين الجنوب والشمال أو داخل كل منهما. وهناك حظر انتشار عدوي التقسيم ليس فقط إلي دارفور التي تشهد صراعا تدعمه أطراف أجنبية عديدة، وإنما أيضا إلي شرق السودان وغيرها. وتبذل مصر الآن جهدها لمحاصرة الخطر، وتبذل بعض الأقطار العربية جهودها كذلك، ولكن الموقف يتطلب أكثر من ذلك بكثير، فالخطر لن يتوقف عن السودان، ورياح التقسيم التي هبت علي هذا القطر الشقيق ستمتد لأقطار أخري، والبحر الأحمر الذي كان بحيرة عربية لن يكون كذلك، والمصالح الدولية التي تتقاتل علي ثروات السودان ستتقاتل علي ثروات دول عربية أخري، والعدو الاسرائيلي الذي يحاول أن يجد مكانا يتآمر منه علي مصر في منابع النيل لن تتوقف محاولاته لضرب الأمن العربي واستنزاف الطاقات العربية، بينما هو يواصل تنفيذ مخططاته لتهويد القدس وتصفية القضية الفلسطينية وفرض نفسه كقوة اقليمية تتحكم في أمن المنطقة. واضح أن أقطارا عربية عديدة أدركت منذ اتفاق نيفاشا الذي رعته واشنطون وفرض الاستفتاء علي تقرير المصير بالنسبة لجنوب السودان.. أن هناك قرارا أمريكيا بانفصال الجنوب. أدركت ذلك واستسلمت له حتي وصلنا إلي ساعة الحسم في الشهر القادم، ولكن ماذا بعد؟ وماذا عن مصير الجنوب والشمال بعد الانفصال؟ وكيف نمنع الكارثة من أن تكتمل؟ واذا كان الجهد العربي قد فشل في منع انفصال الجنوب فكيف يتعامل مع الموقف الآن؟ وهل يدرك حجم الخطر؟ وهل يمكن أن يكون لدينا خطة انقاذ حقيقية تنطلق من أن الحفاظ علي السودان هو قضية أمن قومي لكل العرب؟ الأسئلة كثيرة، والمخاطر أكثر، ومصر تتحرك باعتبار قضية السودان قضية أمن قومي وكذلك الأمر بالنسبة لمياه النيل.. ولكن متي نري جهدا عربيا حقيقيا ينطلق من أن ما يحدث في الجنوب ليس خطرا علي مصر والسودان فقط، ولكنه خطر علي العرب جميعا.. انهم يضربون الأطراف، من العراق إلي السودان إلي اليمن ثم الخليج، ليحاصروا القلب ويعيدوا رسم خريطة المنطقة وفقا لمصالح تحالف غير مقدس بين الطامعين في الهيمنة علي العالم بالسيطرة علي المنطقة وثرواتها، وبين الطامعين في استمرار قدرتهم في التوسع واحتلال الأرض وتدمير كل فرص العرب في استعادة حقوقهم وبناء مستقبلهم. المعركة واحدة، والخطر الذي كان يأتي من الشرق والشمال، يأتي الآن أيضا من الجنوب.. فهل يتحرك العرب قبل فوات الأوان؟! آخر كلام كل الدعوات بالشفاء للدكتورة حكمت أبوزيد أول سيدة تتولي الوزارة في مصر والتي ترقد في المستشفي بعد أزمة صحية. حكمت أبوزيد هي الدليل الحي علي ما أصابنا من تخلف.. قبل خمسين سنة كانت لدينا وزيرة ونائبات منتخبات في البرلمان في وقت لم تكن المرأة قد حصلت علي حقوقها السياسية حتي في بعض دول أوروبا. والآن ننشغل بقضية النقاب، وتوضع العقبات أمام المرأة ويطالب البعض بعودتها إلي البيت، ونضطر لنظام »الكوتة« حتي نضمن لها بعض التمثيل العادل في البرلمان!! نحتاج بلاشك للاستثمار الأجنبي، ولكننا نحتاج أكثر لخريطة توجه الاستثمار إلي المجالات الصحيحة التي تساعد الاقتصاد وتضيف التكنولوجيا الحديثة وتفتح أبوابها للتصدير.. فارق كبير بين أن يتجه الاستثمار إلي التصنيع الثقيل أو إلي إنشاء »المولات« التجارية ومحلات الأكل وبيع الملابس الجاهزة!! فقط 55 براءة اختراع سجلها المصريون في العام الماضي، أمر طبيعي في ظل أحوال التعليم واهمال البحث العلمي والانشغال في العلاج بحبة البركة والافتاء حول زواج الجن وارضاع الكبير!!