أجادت العبقرية سميحة الغنيمي في اختيار النيل لفيلمها التسجيلي.. »ياليلة العيد« من يستطيع أن ينكر »الرقي« علي الطرب الشرقي الأصيل مثل موسيقي رياض السنباطي في شمس الأصيل لأم كلثوم، وكذلك رائعة عبدالوهاب ومحمود حسن إسماعيل »النهر الخالد« وكذلك قصيدة أمير الشعراء شوقي وموسيقي السنباطي »النيل« التي تستهلها أم كلثوم بمطلعها من أي عهد في القري تتدفق.. ولاحظوا أنني أخترت ثلاث أغنيات ذات موضوع واحد وهو النيل.. وهذه الأغنيات الثلاث من أجمل الغناء الراقي الأصيل.. فتري إبداع أم كلثوم في غناء شعر بيرم التونسي عندما تشدو: أنا وحبيبي يانيل.. نلا أمانينا.. مطرح ما يسري الهوي ترسي مراسينا.. لاحظوا الاستخدام الراقي للإبداع والمقابلة الجميلة بين اللفظ والمعني بين كلمتي تسري.. وترسي مراسينا.. وكذلك كلمة »الهوي« وهي كلمة »حمالة أوجه« كما يقول أهل البلاغة.. فالهوي يحمل معني الهواء، ويحمل معني الحب والغرام أيضا.. أغنية أو قصيدة النهر الخالد من كلمات أعظم من رسم الصورة الشعرية في شعرنا العربي الحديث الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل الذي صور النيل علي أنه مسافر أو مهاجر والتطريب الراقي الجميل لموسيقي عبدالوهاب بحيث يصل إلي مقام الكلام الراقي الجميل »سمعت في وجهك الجميل ما قالت الريح للنخيل«!! لذلك أحسنت الاختيار مخرجة الأفلام التسجيلية »سميحة الغنيمي« عندما اختارت النيل العظيم في تصور جديد مصاحب لأغنية الخالدة أم كلثوم »ياليلة العيد أنستينا« والتي صاحبتنا علي ما يزيد علي نصف قرن وكنا نعتبر وجودها إعلانا بصباح العيد الكبير.. جاءت »الغنيمي« صاحبة الأفكار المبتكرة لتعيد لنا النيل المصاحب لغناء أم كلثوم في شكل جمالي جديد يضيف للأشعار بعدا جديدا بالصورة وتركيباتها لتبث فينا إحساسا بالمجد والفخار والسعادة يمنحنا لها النيل كما يمنحنا الحياة.. هذا الفيلم التسجيلي المصاحب للأغنية الذي استمر حوالي 5.4 دقيقة اضاف للمخرجة الموهوبة دائما بعدا جديدا يضاف إلي أعمالها السابقة وكل ما ندعو به لها أن يعطيها الله الصحة والعافية لتمتعنا أكثر وأكثر والشكر مستحق لنادية حليم التي قامت بتكليفها بهذا العمل.. شكرا لكل من يمنحنا الحب والسعادة والأمل في المستقبل. الغناء في المطبخ! الأحد: أغنية »كيلو لحمة«.. أجمل من أغنية »كيلوبترة«!! الحملة شديدة في هذه الأيام علي الأغنيات الهابطة!.. ويفسر المفسرون أن السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة التي اجتاحت أجمل فنوننا أن كثيرا من »أنفار« الغناء تخرجوا جميعا من »الحمام«! ولم يعرفوا الطريق إلي معاهد الموسيقي.. وكل نفر من هؤلاء قد قام بتجريب صوته أولا في الحمام.. ثم قرر بعد ذلك إطلاق صوته في الشوارع.. وتم اعتقال هذه الأصوات وتعبئتها في شرايط كاسيت.. واعادة تصديرها إلي الشارع ومفيش مانع من تصديرها إلي جهات حكومية مثل التليفزيون.. ولكن يبقي مكانها المختار هو الملاهي الليلية والأفراح! وتأملت كثيرا في هذه الظاهرة.. واتبعت المنهج العلمي في تفسيرها مثل أن أبدأ أولا بنظرية شهيرة في الأبحاث العلمية تسمي بنظرية »فرض الفروض« وافترضت ان سر التدهور الذي أصاب الأغنية العاطفية المشهورة بالأغنية الشبابية هو أن »الحمام« هو المسئول الأول عن ذلك.. لأنه هو مكان تفريخ مثل هذه الأغنيات الهابطة.. التي بدأ الانفار يغنونها في الحمام! ومثل أي باحث يلتزم بالمنهج العلمي في ابحاثه مثل حضرتي.. يقوم برصد الظاهرة.. وتحليلها.. وبعد ذلك يبدأ في دراسة العلاج بعد معرفة الأسباب بعد التشخيص!.. وقد كان وعرفنا بالدليل القاطع بعد الكشف بالأشعة المقطعية علي الأغنية وتحليلها في المعامل المركزية للغناء ان المسئول هو الحمام!.. ولذلك اتجهت أبحاثنا العلمية المنهجية إلي العلاج واستحداث نظرية جديدة هي الغناء في المطبخ بدلا من الحمام! وأن المطبخ هو المكان الطبيعي والملهم للفنان المتخصص في الغناء الشبابي أو الشعبي! وأن المطبخ بشكله »الرومانسي«.. وكذلك الطعام الذي هو غذاء الروح هو المكان الطبيعي والطليعي لانتاج هذا اللون الجميل من الفن.. وهو فن الغناء! لأن المطبخ يعطي للمطرب مساحة أضيق تلائم مساحة صوته المخنوق!.. كما أن المطبخ يوحي بالابداع والتجديد في كلمات الغناء.. فمثلا يستطيع المغني ان يجدد في الموروث القديم من الغناء.. وان يغني بالجديد بعد التجديد.. ويبتكر أغنيات تلبي احتياجات الجماهير من الناحية العاطفية الواقعية مثل أن يغني المغني بأغنية جديدة من وحي المطبخ يقول مطلعها: كيلو لحمة.. بدلا من تلك الأغنية الهزيلة التي يقول مطلعها: كيلوبترة!!.. بالذمة أنهو الأحسن في زماننا.. كيلو لحمة أم كيلوبترة؟!.. طبعا اللحمة أحسن ألف مرة!! والمطبخ هو الذي أوحي بالكثير من أغنياتنا الشعبية الزائعة الصيت مثل تلك الأغنية ذات الدلالات الواضحة التي تقول: ياللي جوزك في الغربة طابخة الحمام لمين؟!.. وكذلك تلك الأغنية المشهورة التي تغنيها البنت لأمها.. وتحدث أمها عن حبيبها الذي دعاها علي الأكل فتقول البنت أو العروسة وهي تحكي عن عريسها أو حبيبها: وعزمني يا أمه في الغدا لحمة.. وحبه يا أمة في القلوب زحمة!! طبعا هذه البنت تقول ذلك إذا كان حبيبها من طبقة البرجوازية الكبيرة.. وعزمها علي لحمة! أما إذا كان الحبيب من طبقة البرجوازية الصغيرة التي تقترب من طبقة »البولورتياريا« أو الكادحين من العمال!.. فتكون كلمات الأغنية وعزمني يا أمه في العشا نابت.. وحبه يا أمة في القلوب ثابت!! ويري بعض المؤرخين أن أغنية وعزمني يا أمه في الغدا لحمة.. قد جاءت بعد هزيمة الفول النابت في معركة »نابت لو«!! ونمضي مع أغنيات المطبخ التي تعيد لكلمات الأغاني جمالها بعد سيطرة أغنيات »الحمام«.. ومن أغنيات المطبخ الجديدة هي »رَوْحيَّةْْ يا ملوخية«! وهذه الأغنية تعيد للملوخية مكانتها بشكل رمزي.. وهي ان الملوخية هي غذاء الروح، بدلا من ذلك الكلام التقليدي الذي يغيب عنه الابداع والذي شاع باسم »خضرة« يا ملوخية؟!.. أي اعجاز في ذلك.. فمن الثابت والمعروف ان الملوخية خضرة!.. ولكن عندما نبحث عن التجديد والمزيد والعديد والعديد والعديد من التجديد نجد أن »رَوْحيَّةْ يا ملوخية« هي الأنفع والأرفع!.. وبذلك نكون قد حققنا أمل شيخ الأدباء الراحل توفيق الحكيم الذي رفع شعار نحو الأنفع والأرفع!! والمطبخ كان له عظيم الفضل قديما في الكلام الجميل والابداع فيه.. فمنظر القلقاس يوحي بالمعاناة في الغرام.. وعذاب القلب في الحب!.. فنجد ذلك السائل الذي يسأل العاشق الولهان عن قلبه فيقول بذلك القول الجميل الذي تأثر فيه بالقلقاس فيقول: يسألونك عن قلبي: فقل قاسي.. وقل قاسي! وكلمة قل قاسي.. تشير بشكل واضح إلي قلقاس! وهذا هو التأثير والتأثر الذي يدرسونه في جامعات الدنيا تحت اسم »الأدب المقارن«! كما نجد أن المطبخ هو المسئول عن تلك الكلمات والمفردات والاسماء التي شاعت في مطاعم المدينة.. وبسبب الجو الرومانتيكي في المطبخ.. الذي يشبه الحب العذري الذي كان من خصائصه البوح العاطفي بالغموض.. وعدم تسمية الأشياء باسمائها الحقيقية امعانا في الستر.. وكذلك أيضا من باب استلهام العادات العربية القديمة.. وهي عدم اعلان الاسماء الحقيقية لنساء العائلة.. لأن في ذلك عورة!! كما ان الطعام عورة.. والرزق أسرار.. فيجب عدم اعلان الاسماء الحقيقية للاشياء! فنجد أن الدور التاريخي للمطبخ.. قد أفرز لنا مجموعة من الإبداعات في مجال الألفاظ التي يستخدمها أهل المطاعم في المدينة.. فهم يطلقون علي الفول اسم زيت! والطعمية.. مخصوص أو فلافل!.. والقلقاس اسمه فضالي، والعدس اسمه كهرمان.. وكباب الحلة، يقولون عنها »كمونية« والمونة أرضية!! كما أنه يمكن للفنان الشعبي الذي ضل طريقه إلي الحمام ليغني فيه بالأغاني الهابطة.. أن يصحح الفنان مساره بالاتجاه نحو المطبخ.. حتي تشيع مفردات الخضراوات والفاكهة في كلمات الغناء الشعبي! ومن هنا نشأ علم الفلكلور الذي تقوم بتدريسه في الجامعات الدكتورة فاطمة عيد!!.. ومن المفردات الشائعة عن أسماء الخضر والفاكهة التي تنطقها بإيقاع خاص يساعد علي التلحين هي كلمات: تمر يا جزر تمر.. وعظيمة يا منجة، وحياتي يا بلح، وفول نبدي الغيط يا حلو يا ملعلع يا فول! ولوبيا يا فجل لوبيا!! الورور، ويا ناعمة يا غربية! باختصار.. هذا هو الطريق الصحيح نحو غناء أفضل وهو أن نتجه بأغنياتنا من المطبخ وهو المنبع.. لا من الحمام الذي أصاب أغانينا بالتدهور والانحطاط! وهذا هو العلاج الذي يتضمنه هذا البحث المتواضع الذي منحتني عليه جامعة صفط اللبن الاعدادية الفخرية مع مرتبة الشرف!!