سئل أحد رؤساء الدوائر القضائية عن سبب تحول أكتاف الدائرة جانبا، أثناء مرافعة أحد المحامين، وكأنهم ترفعوا عن سماع المرافعة، بأدب القضاة، فاجاب الرجل بالقول: »إن المحامي كان يغالط!« ويبدو أن المغالطة كانت مفضوحة للغاية، حتي أن المنصة تأففت عن الإنصات إلي المحامي المسترسل. ولذلك الأمر معنيان، أولهما: أن المحكمة كانت علي إلمام تام بالقضية، وقد عز عليها أن تنصت من غير أن تقاطع الدفاع، وثانيهما: أن المحامي لم يملك من الحس قدرا يجعله يستشعر امتعاض المحكمة من مغالطته. وفي تلك الواقعة نموذج لما يرفضه القضاة لغير ما يتوقعونه من المحامين المكلفين بكشف الحقائق، والذين وصفهم قاض رفيع، بأنهم مصابيح العدالة، كما هو أول درس من دروس ممارسة المحاماة بالالتزام بالتوقير والوقار- ليس لأنفسهم أو للقاضي الممسك بميزان العدل فحسب- وإنما للقاضي الأعلي وهو الرقيب علي العباد. أوكما قال النقيب الراحل مصطفي البرادعي بأن علي المحامي أن يتسلح بالوقار. فعندما نتصحف التاريخ الحديث للمحاماة نجد في صفحاته حكماء تميزوا بعشق المحاماة، وشيدوا لها منبرا يتباري علي أرضه كل ذي فكر خلاق، واتقنوا صحيح اللغة، وتبحروا في الإصلاح، وآمنوا بمهمتهم، مستشعرين حاجة الناس إلي من يوصل حقيقة دعاواهم للقضاة، حتي يحكموا لهم بالعدل، وكان لكل منهم تاريخ حافل لم يتسن تسجيله في الماضي، ولم يتبق منه سوي أوراق بهتت عليها أسطر المذكرات الغنية باللباقة، والثرية بالمعاني البراقة، فيحق لنا أن نطالب وزارة العدل بأن تخصص قسما خاصا لرصد تاريخ القضاء والمحاماة، وحفظها بأحدث الاجهزة، كما علي الجامعات أن تشجع طلاب الدراسات العليا علي تبني تلك المهمة القومية التي تعيد ذكري امجاد اسلافهم، واعتبارها نماذج للشباب، وأيضا انشاء متحف لتلك الاوراق التي يمكن الحصول عليها من ورثة هؤلاء العظام، وما أكثر من يهمهم تخليد مورثيهم والافتخار بإنجازاتهم. وكان رأي الكاتب بعد ظهور وسائل الإتصالات الحديثة، أن تخصص وسائل الإعلام المرئية قناة تعليمية تذاع منها محاضرات صفوة اساتذة القانون الذين يعملون في محراب كلية حقوق واحدة، حتي ينتفع بها بقية طلاب الكليات الاخري، وتوحيدا لمستوي تعلم القانون، وعدم حرمان زملائهم من سماعها. فهناك بعض المحاضرين الذين يشبهون المطربين وكبار العازفين، ويجب أن يصل طربهم أسماع جميع رجال القانون. ويسوق الكاتب بعض النماذج التي تعزز مقترحه بجمع الاعمال القضائية النفيسة، ليتوافر للأجيال الحالية والقادمة، العناصر التي يصنع منها جوهر دراسة القانون، وتكفي للممارسة الجيدة فعلي سبيل المثال، أسماء لمعت في سماء القانون، مثل: مصطفي مرعي وعلي الخشخاني وعبده أبو شقة وحسن الجداوي وراغب حنا ومرقس فهمي، وغيرهم، ووحيد رأفت المدافع عن قضية طابا. فنعرض مثلا مقارعة إبراهيم الهلباوي لعبد الخالق باشا ثروت في دفاعة عن قاتل بطرس باشا غالي رئيس الوزراء عام 0191، وقد وجه كلامه للمحكمة قائلا: »تقبلوا دعاءنا في طلب الرحمة كما يتقبلها من أقامكم حكما في عباده، والذي علمنا أن من صفاته العدل والرحمة وعلمنا ان الرحمة فوق العدل »ثم توجه بالقول للمتهم: »عليك أن تتقبل عذر الدفاع فيما خالفك في عقائدك السياسية.. فاقبل نبال الموت بقلب البواسل.. واذهب ، فقد يكون في موتك بقضاء البشر، عظة لأمتك أكثر من حياتك.. اذهب فإن قلوب العباد، اذا ضاقت رحمتها عليك، فرحمة الله واسعة!« كذلك كان الأدب يغلب علي النائب العام محمد لبيب عطية في قضية الشروع في قتل إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء عام 0391، كما نذكر أقوال القضاة العظام، كقول عبدالعزيز باشا فهمي عندما رفض أن يكون وزيرا، وقال: »إن مركز قاض لأسمي وأكرم عندي من مركز وزير وكذلك قول القاضي أحمد باشا حسن، الذي رد كتاب شكر وزير العدل، وأرفقه بعبارته الشهيرة »أرد إليك كتابك، فمن يملك الثناء يملك القدح، وأنت لاتملك هذا ولا ذاك!« يالها من عظمة .. وللحديث بقية.