لم يكن الفقر يوما عيبا أو نقيصة.. ولم يكن حجة للإنسان كي يخفض رأسه ولا يرفعه مرة أخري، أويأسف علي وضعه، أوييأس من حياته ويكف عن العمل والإنتاج، أو أن يمنع نفسه من الحلم بمستقبل أفضل.. وبمعني آخر قد يكون الفقر عائقا، ولكنه ليس مانعا.. بل ربما تكون الحكمة فيه أن يُعرفنا خالقنا نعمة العقل الذي منحنا إياه وفضلنا به علي العالمين، وأن يختبر به قدرتنا علي الاختيار، وأن يُثبت لنا أن لسنا مسيرون بل نحن نملك كامل حريتنا في تحقيق ذاتنا والتغلب علي ابتلاءاتنا.. واستخدام قدراتنا العقلية في إعمار الكون من حولنا والنفس بداخلنا! أما أن يحول بعضنا فقرا ماليا أصابنا إلي عاهة مستديمة تحد من حركتنا وتحكم علي وجودنا بالعدم، فهو هنا يُرخصّ من قيمة عقله دون مقابل، ويكشف عورته دون ستر، ويسلم بإرادة إنسانية اختارها هو، لا إرادة إلهية منحها لنا الله سبحانه وتعالي عندما أمرنا بالعلم (اقرأ) وحدثنا عن العمل والإنتاج (العمران) وألهمنا (الإبداع)! لقد وزعت علينا الأدوار في الحياة مابين غني وفقير، وقادر وغير مقتدر.. لحكمة التعرف علي العمل الصالح والعبد الصالح، وعلي قدرتنا وإبداعاتنا في استلهام طريقنا للفوز في الدنيا شرط الحلال والآخرة شرط الصبر.. أما مافعلناه نحن المصريين فقد تركنا أنفسنا فريسة لمرض فقر الابداع وصدقنا أن دواءنا يكمن في حاجتنا للغير، وربما صدقنا الأعداء الذين أقنعونا بنظرية أن الفقر جينات حتمية لدي بعض الشعوب، وأن قدرنا أن نورثه للأجيال القادمة منا، فانهزمت منا النفس وغابت الإرادة، وأصابتنا بالفعل الأنيميا الحادة للابداع، فأهدرنا طاقاتنا الفكرية ومواردنا الطبيعية، وأوقفنا إعمال العقول، وأغلقنا طرق البحث في العلوم، وزدنا عدد الجهلة بيننا، وتربعنا في خانات الكسل، ومددنا الأيادي للطلب واكتفينا بسد حاجة لقمة العيش، وحنطنا أنفسنا في توابيت حضاراتنا القديمة الرفيعة ولم يتبق لدينا سوي فتات الفكر التقليدي الذي فرغ محتواه بحكم تقدم علم الأوطان من حولنا، فصار كالبركة الراكدة كلما حاولنا الاغتسال بمائها، خضنا في وحلها، وعلقت بنا شوائبها، وأصابتنا بلهارسيا فقر ابداعنا! أما ماذا بعد ؟ فهو أنه لم يعد أمامنا فرصة الاتكاء علي نظريتنا المنبوذة من جانب الدول العظيمة، فصار لزاما علينا أن نتخلص من ركود الفكر، وأن نتعرف علي معني الإبداع ونتخذ منه طريقا لإيجاد حلول مبتكرة لمشاكلنا تنبع من عقول أبنائنا لا من أصفار تعليمنا، وأن نغير طرق استغلال قدراتنا، فالإبداع فكر ملهم ومنظم وبمكن تنميته لدي كل منا،وليس مجرد دراما هزلية ننافس بها في مهرجانات بترولية بائسة، أنه سبيل حياة للأمم لاطريق اغتيال لحلم الأبناء، وهو إعمال عقل لا قتل موهبة، وهو خيار مفكرين لا استقواء أغبياء، وهو الاختيار الوحيد المرشح بامتياز لإنقاذنا من الفقر وإنقاذ بلادنا من العوز! مسك الكلام.. قد تهبك الدول ملايين المنح من مالها.. لكنها لاتهديك أبدا واحدا من مبدعيها!