حين قامت دولة الرومان علي البطش والحرب، وقامت دولة الإغريق علي تقسيم المجتمع إلي سادة وعبيد، قامت حضارة مصر - كما تقول د. نعمات أحمد فؤاد - علي الثقافة يأخذها ويعطيها كل ميسر لها، وكم من عظماء الكُتاب والحكماء في مصر، خرجوا من صميم الشعب .. وعلي رأس هؤلاء "أيمحتب" أول شخصية موسوعية في العالم. لقد كتب مجد مصر، المصريون جميعاً. فالملك خيتي ينصح ابنه: (لا ترفع ابن الرجل العظيم علي ابن الرجل المتواضع، بل قرب اليك الانسان حسب كفاءته الشخصية). حين عاد "حور محب" من حروبه منتصراً، وأراد المثّال المصري أن يصنع له تمثالاً يمثل الملك الأمبراطور القائد المظفر، طلب اليه "حور محب" أن يكون تمثاله علي هيئة الكاتب المصري، في احساس عميق ودقيق بما للكتابة من معان وهالات. كان المصري القديم علي وعي بالترابط الوثيق بين الكتابة والحكمة. فمن يملك الحكمة يكتب، ومن يكتب فهو حكيم. ومن هذا المنطلق برز من بين أبناء الأزهر الشريف ومن بين أبناء الكنيسة القبطية - في العصر الحديث - من كانوا ممتلئين بالحقيقة من الحكمة فصاروا رموزاً للتنوير في جيلهم. والذي يحمل مصباح المعرفة يبدد ظلام الجهل. بأتي علي قائمة المجددين من الأزهر الشريف الشيخ محمد عبده (1849 - 1905م) فهو أحد كبار المثقفين الذين وقفوا بفكرهم وعملهم مع رواد يقظة الوطنية المصرية، ويُعد المؤسس الحقيقي لمدرسة إحياء الاجتهاد الفقهي - كما يقول الأستاذ سامي خشبة - وقد جمع في اجتهاداته بين مناهج الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام مالك ولم يقيد نفسه بمذهب أو فقه واحد منهم. وبذلك خطي خطوة كبري نحو تحرير العقل الإسلامي وإحياء مدرسة الاجتهاد بعد خطوة الشيخ الإمام حسن العطار في أواخر القرن 18 الميلادي. نجد أيضاً الشيخ مصطفي عبدالرازق (1885 - 1947م) مجدد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث - كما يقول الأستاذ سامي خشبة - وصاحب أول تاريخ لهذه الفلسفة يُكتب في العربية علي الإطلاق، ومؤسس المدرسة الفلسفية "المصرية العربية" الخالصة التي أقامها علي أساس فكرته الرئيسية عن نشوء الفلسفة الإسلامية من قلب الدين والعلوم الدينية وخاصة علم أصول الفقه باعتباره علماً عقلياً استهدف إقامة الأحكام الفقهية عن طريق النظر العقلي والمقارنة بين النصوص المقدسة والحالات الواقعية وباستخدام منهج الاستقراء العلمي. ثم إذا انتقلنا إلي آباء الكنيسة القبطية يأتي في مقدمتهم - في العصر الحديث - البابا كيرلس الرابع (1816 - 1861م) البطريرك 110 والذي يحمل لقب "أبي الأصلاح"، فمنذ أن تسلم شئون الكنيسة في عام 1853م وجه إهتمامه نحو نشر التعليم بين أبناء الكنيسة. فقام بتشييد مدرسة علمية كبري لتعليم النشء القبطي العلوم والمعارف وتثقيفهم ثقافة عصرية ممتازة، وجمع أبناء الكنيسة وتعهدوا بالاكتتاب بقيمة المصاريف اللازمة لانشاء هذا المعهد العظيم أساس النهضة الحديثة بين الأقباط وقام بالصرف عليها من أوقاف الدار البطريركية. وفي أقل من عامين كان قد أتم بناء هذا المعهد لافتتاحه في 1855 يجئ بعد ذلك البابا كيرلس السادس (1902 - 1971م) البطريرك 116، الذي في خلال فترة رهبنته شجع الشباب الجامعي علي الانخراط في السلك الرهباني للنهوض بالأديرة القبطية وأيضاً بحال الكنيسة. كما شجع مجموعة من الشباب الجامعي بالإسكندرية علي تأسيس جمعية ثقافية للنهوض بالدراسات القبطية فتأسست جمعية مارمينا العجايبي في نوفمبر 1945. ثم نذكر بكل تقدير الدور الثقافي والتعليمي الذي قام به البابا شنوده الثالث (1923 - 2012م) في الاهتمام بالتعليم منذ شبابه المبكر عندما تولي رئاسة تحرير مجلة "مدارس الأحد" عام 1949 التي كانت - ومازالت - الصوت الناطق بالحق في القوانين والتشريعات الكنسية، ثم في فترة رهبنته بدير السريان أهتم بنسخ المخطوطات وتنظيم مكتبة الدير وإحضار مطبعة خاصة بالدير، ثم في فترة أسقفيته للتعليم أهتم بتوعية الشعب ثقافياً عن طريق المطبوعات المبسطة، وفي فترة بطريركيته أصدر العديد من المؤلفات. تلك نماذج لرواد عظماء أعطوا لمصر بسخاء وبفكر مستنير، وعلي أيديهم تتلمذ العديد من الشباب المصري الواعي القادر علي مواجهة أفكار الجهل والتطرف والانغلاقية والردة إلي عصور الظلام. مصر أُم ولود وستظل تُنجب بنين صالحين مخلصين لتراب هذا الوطن الغالي.