المثل إن كل ممنوع مرغوب، ذلك أن المنع يأتي في الغالب لكبح جماح ثائرة.. ولكن في حالة الاستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان فإن القاعدة المثالية أصابها انقلاب، فصارت الحاجة الي تأجيل هذا الاستفتاء عن موعده المضروب في التاسع من يناير القادم عام 2011م ممنوعا، ذلك أن الحديث عن التأجيل قد دخل في دائرة المحرمات المحظورة، وبالرجوع الي أصل الموضوع، نجد أن أهل السودان كلهم مع التأكيد علي الوفاء بآخر استحقاقات اتفافية السلام الشاملة، وهو إجراء استفتاء في نهاية الفترة الانتقالية البالغ مداها ست سنوات، ليحدد الجنوبيون عبر هذا الاستفتاء المشروط بالنزاهة والشفافية والحرية رغبتهم في المستقبل، هل يؤكدون عبره وحدة السودان، فيظلون مع إخوانهم في الشمال في وطن واحد موحد، أو يختارون الاستقلال بإقليمهم والانفصال عن الشمال، وتكوين دولة منفصلة خاصة بشعب السودان في الجنوب، ويستوي في هذا الإقرار بإجراء الاستفتاء منسوبو المؤتمر الوطني والحركة الشعبية علي السودان، ويستوي فيه كذلك الوحدويون والانفصاليون، فالمؤتمر الوطني يتمسك بإجراء الاستفتاء لتأكيد مصداقيته وجديته، أما الحركة الشعبية فتري أن أي تأجيل للاستفتاء يمكن أن يقود إلي تسويفه، وقد يؤدي التسويف إلي الالغاء، ولهذا فإن تأجيل الاستفتاء صار ممنوع الاقتراب منه، وكذلك التصوير، وعلي خلفية هذه الخلفية اكتسب الحديث عن تأجيل الاستفتاء حساسية مفرطة، لا سيما لدي الشريكين فكلاهما لايرضي أن يحسب عليه الآخر نقطة، فلو قال أحد منسوبي المؤتمر الوطني بالتأجيل، فالآخرون يصورون ذلك محاولة تنصل، أما إذا قال به أحد أفراد الحركة الشعبية فيخشي أنصاره أن يستغل الفريق الآخر هذا الحديث فيتنصل من الالتزام.. ولئن كان هذا الواقع قد حف حديث السياسيين حول التأجيل بالمحاذير والمخاوف، لاسيما منسوبي الحزبين الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فيجب ألا تنتقل هذه المحاذير إلي عامة الناس وخاصتهم، خارج دائرة الشراكة، ونخص من هؤلاء الناس الصحفيين والإعلاميين والمفكرين والمؤثرين في الرأي العام والمكونين له، والأحاديث حول مسألة التأجيل ترتبط كلها بأسباب فنية ولوجستية، وأسباب موضوعية تهدف إلي أن يقوم الاستفتاء وفق ما هو مرسوم له بحرية ونزاهة وشفافية، ويقود الي غايته المنشودة، وهي استطلاع رأي الجنوب حول الوضع الذي يريدونه، وألا يقود إجراؤه إلي الخروج عن الحالة التي اوجدتها اتفاقية السلام حالة السلام والإستقرار الدائمين، وإذا فقد الاستفتاء أحد هذه المقومات يفقد مشروعيته كذلك، والإستفتاء الذي يقود الي خلاف وتوتر قد يؤديان إلي نسف الاستقرار وتهديد السلام، هو بالطبع ليس الاستفتاء الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل، وأجازه دستور البلاد، وبالتالي لن يكون هو الاستفتاء المعني في هذه الاتفاقية. ومما يجب الإشارة إليه وتأكيده، أن الاستفتاء وسيلة وليس غاية، والوسيلة تفقد مشروعيتها إذا قادت إلي غير الغاية المنشودة، وعليه فإن الاستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان إذا كان متاحاً له أن يؤدي إلي غايته المنشودة إذا ما أجري في موعده المحدد في التاسع من يناير عام 2011م فيكون إجراؤه موضوعياً، ومنطقياً، ومنسجماً مع نصوص وروح اتفاقية السلام التي تحكم كل مسار سياسي في البلاد خلال هذه الفترة، أما إذا كان هناك أدني نسبة من الشك، التي يمكن أن تشير إلي غير المرتجي، فيكون النظر في أمر التأجيل واجباً، ولا أود أن أقول بعدم قدسية تاريخ التاسع من يناير موعداً لإجراء الاستفتاء، أن في مسألة الاستفتاء القدسية للاستفتاء نفسه ولشروط صحته ووجوبه، فهو إن كان يجب في نهاية الفترة الانتقالية، فإنه لا يصح بغير الشفافية والحرية والنزاهة، ويخرج عدم الصحة إلي الحرمان إذا ما كان الإجراء يقود إلي وأد السلام الذي تحقق، ومن هذه المنطلقات نرجو أن تدير النخبة حواراً موضوعياً هادئاً حول إجراء الاستفتاء في التاريخ المحدد 9/1/ 2011 ؟حتي تصل إلي قرار حول إجراء الاستفتاء في موعده، يبدأ من الوجوب وينتهي حتي التحريم، وبين الحكمين أحكام أخري عديدة تتأرجح وتتفاوت قرباً وإبتعاداً من الموجوب والممنوع.