ذلكم الحدث الذي غير وجه التاريخ فابتدا منه التاريخ تشرق علي دنيا الناس وعالم البشر..بشريات العام الهجري الجديد... حاملة بين طياتها أعظم ذكري وأنبل حدث وأعظم عمل قام به سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه. انه حدث »الهجرة النبوية الشريفة« ذلكم الحدث الذي غير وجه التاريخ فابتدأ منه التاريخ، ذلكم الحدث الذي كان في ضمير الغيب، ومنذ الأزل ومنذ فجر الدعوة الإسلامية. من أول وهلة صافح الوحي فيها قلب سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم وهو في غار حراء، حاملا أمر ربه إليه، اقرأ ويقول ما أنا بقارئ وينتهي حديث اقرأ وينتهي حديث أولي قطرات الوحي المنزلة علي القلب النبوي الشريف بأن يعود إلي بيته قائلا »زملوني لقد خشيت علي نفسي« فتقول له زوجه السيدة خديجة : كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين علي نوائب الحق، وتذهب به إلي ورقة بن نوفل. من هنا يبدأ حديث الهجرة؟ نعم.. من هنا، كيف وهذه المرحلة أولي مراحل الدعوة والوحي، نعم من هنا يبدأ حديث الهجرة منذ قال له ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي أنزله الله علي موسي، ياليتني أكون فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال المصطفي صلي الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال.. نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.. منذ هذه اللحظة بدأ حديث الهجرة ولم يبدأ بعد النصف الأول من الدعوة، بل إن الذي بدأ بعد ذلك وبعد حدث الاسراء إنما كان الحدث نفسه، أما الحديث عن الهجرة أما الإخبار عنها فقد كان معهودا معروفا حين قال ورقة:... ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، وحين رد عليه النبي صلي الله عليه وسلم قائلا: أومخرجي هم؟ فكأن خروجه صلي الله عليه وسلم وكأن نبأ هجرته كان معهودا معروفا من قبل حتي إذا ما توالت الأيام ومرت السنون وظن البعض حين بدأت معالم الهجرة انها إلي أرض اليمامة أو أنها إلي أرض هجر بالبحرين إذ بالله تعالي يطلع حبيبه في النوم علي رؤيا ورؤيا الانبياء حق فيصبح قائلا لاصحابه: »رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلي أرض بها نخل فذهب وهلي إلي أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب« . لقد أطلع الله تعالي حبيبه ومصطفاه علي تلك الهجرة، وعلي ذلكم البلد الطيب طيبة، وطابة.. المنورة به صلي الله عليه وسلم، ولكن لا نريد ان نمضي مع احداث الهجرة، فاحداثها كثيرة ووقائعها عديدة، ربما يكون البعض قد سمعها كثيرا ولكن حسبنا أن نقف وقفات متأملة ومتدبرة مع هذه الاسرارالتي كانت في هذا الحدث العظيم، وهنا أتساءل: من قبل الهجرة بقليل، لقد أجري الله تعالي لحبيبه ومصطفاه صلي الله عليه وسلم، حدث الاسراء والمعراج ليمحص له القلوب، وليمتحنها ويختبرها ويبتليها فيظهر المخلص الصادق في إيمانه، الذي سيقبل علي مخاطرة الهجرة ويترك ماله وأرضه وولده وأهله، ويظهر المنافق الذي لا يخلص في هذا العمل الخطير، فكان حدث الاسراء والمعراج ليبتلي المؤمنين وليمحصهم ويختبرهم ويظهر المخلص الذي سيقدم علي تلك المخاطرة المحفوفة بالشدائد، ولكن لقد أسري به في جزء من الليل.. مسافة ما يمشي البعير به شهرا كاملا، وأسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي، ومنه إلي السموات العلا في جزء من الليل دون تعب منه أو مشقة، فلم تركه في الهجرة علي هذا النحو المرير، والجهاد الشاق؟ والمخاطرة الصعبة المليئة بالشدائد؟ وقد كان في وسع رب العزة سبحانه وفي قدرته كما أسري به وعرج إلي السماوات العلا في جزء من الليل دون تعب أو معاناة أن يتم له هجرته علي هذا النحو دون تعب أو معاناة، وان ينقله من مكة إلي المدينة في جزء من الليل أو بين عشية وضحاها، وما كان ذلك يشق علي القادر علي كل شئ كما فعل في الاسراء والمعراج، إلا أنه قد جرت حكمة العزيز الحكيم أن تكون هناك عبرة للدعاة والهداة والمخلصين والخلفاء الراشدين من بعده ولجميع المصلحين والرواد، إن أولي العزم من الرسل، وإن اتباعهم من أممهم لا يمكن ان تنتهي بهم رسالتهم، دون ان يمتحنوا وإن يبتلوا، ودون ان يواجهوا المعاناة والمشقة، ودون ان يبذلوا أقصي ما في الوسع الانساني ليكونوا قدوة ونماذج عليا لأممهم علي مر ادوار التاريخ، لأن لهم عند الله مكانة عليا فصلوات الله وسلامه عليك يا خير مهاجر إلي الله. أراد رب العزة ان تكون هجرته علي هذا النحو المحفوف بالشدائد وبالمكاره وان يتربص القوم به الدوائر، ليكون في ذلك عبرة، وليكون الدرس وليكون النموذج الأمثل لأمته وللهداة وللدعاة من بعده، واذا ما نظرنا إلي هجرته صلي الله عليه وسلم لنقارن بينه حين هاجر واتخذ له دليلا واستخفي عن أعين الناس، وبين هجرة واحد من اصحابه كسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه نراها تختلف تماما عن هجرة سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم، لقد تقلد سيدنا عمر سيفه. وتنكب قوسه، وعلي ملأ من قريش طاف بالكعبة سبعة أشواط، وعلي مسمع من صناديد الشرك نادي بأعلي صوته من أراد أن تثكله أمه ويؤتم ولده وترمل زوجته، فليأتني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد، وهاجر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه معلنا هجرته في رائعة النهار علي مسمع ومرأي من صناديد الشرك ومن قادة الكفر ومن ملأ قريش كلها، لكن هجرة الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه اختلفت تماما عن هجرة عمر فقد هاجر متخفيا ومتخذا الدليل واخذ بالاسباب واعد للأمر عدته، ونام ليلته في حجرته، وقد جاءه الوحي فأخبره الخبر، فأمر عليا ان ينام مكانه وان يتسجي ببردته، وما كان حين أمر عليا ليجعل من علي فداء له وليتأخر هو عن موقف الخطر... كلا.. كلا، لكن الوحي هو الذي أعلمه أنه سوف يكون بمنجي من الاعداء، وان من ينام مكانه سوف يكون بمنجي ايضا، ولذلك قال لعلي: نم مكاني وتسج ببردتي الحضرمي هذا.. ولن يخلص إليك شئ تكرهه، لأن الوحي نزل إليه بذلك وهاجر مستخفيا، وشاء الله ان يلقي بالتراب علي رؤوسهم »وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون« ويختفي في الغار مع صديقه، يأخذ في الاختفاء وعمر في الإعلان، وما كان عمر بأشجع من سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، إن سيدنا رسول الله كان أشجع الناس علي الاطلاق، وكم شهد بذلك أصحابه وقالوا كان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلي الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلي الصوت وهو علي فرس لابي طلحة في عنقه السيف، وهو يقول: »لم تراعوا لم تراعوا«. لكنه هنا يختفي ولا يعلن هجرته كما أعلنها عمر، لأن سيدنا عمر حين يعلن هجرته وله ظهور تحميه، فهو يتصرف انطلاقا من توجه خاص به واجتهاد له معين وتصرف خاص به، ولعل الفترة التي كان قد قضاها قبل الإسلام، تجعله يضاعف من تصرفات الايمان الشجاعة، تحديا منه لمرحلة الشرك السابقة، فها هو يجابه الشرك الذي كان يعتنقه ويعلن التوحيد في غير خوف ولا وجل تصرفا من نفسه، أما رسول الله صلي الله عليه وسلم فلا يتصرف من نفسه بل يتصرف عن وحي من الله علام الغيوب، ولا يتصرف لذاته هو ولكن يتصرف لأمة تتبعه، وتقتدي به، ومن بين أتباعه مستضعفون لو هاجر بهم علانية لذاقوا صنوف المعاناة، وأوذوا واضطهدوا فإنه نبي مقتدي به لم يشأ أن يعلن هجرته وأن يجعلها جهارا نهارا علانية، كما هاجر عمر، فربما يظن المسلمون والمستضعفون أن الهجرة لا تصح إلا علانية فيهاجرون علانية فيؤذون ويضطهدون وتكسر شوكتهم فأراد ان يأخذ بالاسباب وان يحمي أمته، وهذا هو شأن القائد الماهر، إنه يعطي درسا عظيما علي مر أدوار التاريخ لكل الخلفاء من بعده، ولكل حكام الدول والدنيا بأسرها إلي ان تقوم الساعة، ان القائد الماهر، والحاكم العظيم هو الذي يحقن دماء أمته ويصون الذين يتبعونه، وهكذا كان النبي الرءوف الرحيم عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، لم يشأ أن يعلن هجرته، بل أخذ بالاسباب واستخفي عن أعين المشركين، ويشاء الله تعالي ان يجري الخوارق علي يديه فالحمامتان تبيضان وتعششان والعنكبوت ينسج خيوطه والشجرة تضرب بجذورها في لحظة علي فم هذا الغار ليرتد أعداء الاسلام وينسج العنكبوت خيوطه علي الغار وتعشش الحمامتان الوحشيتان وتنبت شجرة لم تكن لتنبت إلا بعد كثير من الزمان فيقول المشركون لا يمكن ان يكونوا قد دخلوه فيرتدون علي أعقابهم خاسرين، وصدق البوصيري رحمه الله حين قال: فالصدق في الغار والصديق لم يرما ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت علي وقاية الله أغنت عن مضاعفة وهم يقولون بالغار من أرم خير البرية لم تنسج ولم تحم من الدروع وعن عال من الأطم إنها رعاية الله وعناية الله وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان وحتي إذا ما أعلنت قريش عن جائزتها لمن يأتي برسول الله صلي الله عليه وسلم، واذا بسراقة سيد بني مدلج يمتطي صهوة جواده ويقطع الصحراء وثبا حتي إذا ما اقترب من موكب رسول الله صلي الله عليه وسلم هوي به فرسه وساخت أقدامه في رمال الصحراء وما استطاع لها حراكا، ويعاود مرة ثانية ، ومرة ثالثة، وهكذا كلما توجه بفرسه تجاه رسول الله صلي الله عليه وسلم، كبا به فرسه حتي أيقن الرجل المشرك الذي راح ليقطف رأس محمد أن هذا نبي معصوم محفوظ من قبل الله ولا سلطان لأحد عليه، ولا يمكن ان يصل إليه شئ من أعدائه، فيطلب الأمن ويعطيه الأمان ويقول له: ان شئت أمدك بالزاد فيقول له : ياسراقة، لا حاجة لنا في شئ ولكن عم عنا الطلب، أي الذين يطلبونه ويريدونه، ولقد أيقن أن الرجل بدأ في طريق الهداية، ثم قال له بعد أن أعطاه الأمان فلعلي بك وقد ألبسك الله سواري كسري. قال : كسري بن هرمز؟ قال : كسري بن هرمز، فعاد سراقة بوجه غير الوجه الذي ذهب به. ذهب بوجه مكفهر علي قسماته العدوان، وعاد بوجه هادئ تشرق فيه آيات اليقين، يرد الطلب عن رسول الله، ذهب بوجه يريد أن يقطف رأس محمد، وعاد بوجه يرد أعداء محمد عنه، ثم رجع إلي ملأ قريش والقوم يموجون في جموعهم، ويقول لهم: لقد رأيت من أمره عجبا لقد حدث لي ولجوادي كذا وكذا.. وقص عليهم ما حدث له، موضحا لهم أن ما حدث دليل علي أن محمدا صلي الله عليه وسلم نبي حقا محفوظ من قبل الله، وهكذا عاد الرجل الذي ذهب ليقتل رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي ملأ قريش يردد معجزات هذا النبي حتي عجب القوم، وعجب أبو الحكم، وهو أبو جهل وخاف ان يدخل الناس في الاسلام بسبب سراقة، وهذا فعلا ما حدث، فراح أبو جهل ينادي في القوم : بني مدلج إني أخاف سفيهكم عليكم به ألا يفرق جمعكم سراقة مستغو لنصر محمد فيصبح شتي بعد عز وسؤدد فنادي أبو جهل بني مدلج، موضحا لهم ما حدث من سيدهم سراقة في هذين البيتين، وأنه يخاف وقد أغراه محمد وما لقيه معه أن يجعل الناس كلهم يتبعونه، فماذا قال سراقة؟ وبماذا أجاب علي أبي الحكم أبي جهل؟ قال: أبا حكم والله لو كنت حاضرا علمت ولم تشكك بأن محمدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه رسول ببرهان فمن ذا يقاومه صلوات الله وسلامه عليك يا صاحب الهجرة يا من أعطيت دروسا لقادة الدنيا، وحكامها، ولشعوب العالم علي مر أدوار التاريخ، الحق أحق أن يتبع وأن الرواد والهداة والمصلحين في كل زمان ومكان لابد ان يعانوا، ولابد ان يلاقوا من المشقة ما شاء الله تعالي لهم، حتي ترفع درجاتهم عند الله سبحانه وتعالي، وكما قال سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم قولته الحبيبة حين ترك مكةالمكرمة »والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت«.