ينفرد الفن الاسلامي بالمشكاوات، مصدر الضوء، ولان الضوء كاشف، رمز للحياة فلابد ان يكون مصدره جميلا، ومصر قدمت للعالم هذه القطع الفنية التي اتأملها كثيرا الخميس ما من مرة افترشت فيها صحن مسجد الا وتعلق بصري بالمشكاوات الزجاجية المتدلية من السقف، والتي تنافس الفنانون المسلمون في تجميلها، وزخرفتها بحيث اصبح لها حضور خاص بين سائر الاواني المصنوعة من الزجاج.. ألم ترد في القرآن الكريم؟ اتطلع الي تلك الآنية ذات الخصر الاضيق مرتلا في وعي الاية الكريمة »سورة النور« »الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مبركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور علي نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثل للناس والله بكل شيء عليم« وكثيرا ما اشرق او اغرب في المكان، وفجأة القي نفسي مرتلا هذه الآية الكريمة مستعيدا اشكالا مختلفة من المشكاوات. من اللغة الي الصناعة المشكاة لفظ عربي اصيل، يعني كل كوة في الجدار غير نافذة سواء كانت معقودة او مقعرة، نصف دائرية او متوازية المستطيلات، حتي الان نراها في القصور او المساجد او بيوت الريف البسيطة، تغور في الجدار كتجويف قد يبطن بالفسيفساء او الرخام او يصبح مجرد تجويف في جدار بسيط من الطوب اللبن، توضع فيها تحف او قناديل، وكثيرا ما تتخلل الجدران الخارجية بغرض الزخرفة. ثم امتد اللفظ ليشمل كل زجاجة او قنديل يوضع فيه المصباح وكانت وظيفته حفظ النار من هبات الرياح، وتحويلها الي ضوء مشع ينتشر في المكان. المصباح يوضع داخل المشكاة، يثبت اليها بواسطة سلوك تمتد من الحافة الي القلب، اما المشكاة نفسها فتعلق بواسطة سلاسل تتصل بالسقف او عوارض تمتد في فراغ المسجد، وتلتف حول بدن المشكاة، احيانا كانت هذه السلاسل من الذهب في القصور، او الفضة، اما الان فلا نراها مصنوعة الا من الحديد. تشبه المشكاة في شكلها العام اناء الزهور فهي ذات بدن فسيح ينساب الي اسفل، وينتهي بقاعدة لها رقبة علي هيئة قمع متسع الوانها بين الاخضر والاحمر والابيض والوردي. وتتصل صناعة المشكاوات بصناعة عريقة القدم، الزجاج. الزجاج الاسلامي يذكر المؤرخ الفينيقي بليني ان تجارا فينيقيين خيموا علي شاطيء نهر بيلوس وطهوا طعامهم علي قطع من النطرون كانت معهم، وفي الصباح وجدوا ان الرمل والصودا اللذين تتكون منهما تلك القطع قد اتحدا وكونا مادة زجاجية. وهكذا عرف الانسان الزجاج. لكن يثبت الواقع ان الانسان قد عرف الزجاج منذ حقب بعيدة ويحدد علم الآثار ثلاثة مراكز في الشرق كانت اول من صنع الزجاج، مصر والشام والعراق، وفي العصر الاسلامي شهدت الصناعة تطورا كبيرا خاصة في الحقبة المملوكية، ورث الصناع خبرة طويلة تمتد الي آلاف السنين، كانت الحقبة المملوكية ذروة هذا الفن وفيها تطورت اساليب النفخ واستخدام القالب والزخرفة بالاضافة الي القطع والطبع والتهذيب والتلوين والبريق المعدني. يقول الدكتور حسن الباشا ان الصناع المصريين والسوريين ورثوا التقاليد القديمة في عصر الايوبيين والمماليك، وساروا بها نحو الشمال. في العصر المملوكي تفوق صناع الزجاج في فن تمويه الزجاج بالمينا والذهب واستخدموا هذه الطريقة في زخرفة كثير من الاواني الزجاجية المختلفة كالأكواب والقنينات والكئوس والصحون وغيرها، وكانت زخارفهم للمشكاوات تتم بهذه الطريقة ولكن الامر بالنسبة لهذه الانية بالذات يختلف، اذ كان الشعور الديني العميق يتجلي في مدي العناية بها ومحاولة الوصول بها الي ذري الفن الانساني، الم يرد ذكرها في القرآن الكريم؟ هذا الشعور الذي يرقق الزخارف والالوان نجده في سائر الفنون التي لها صلة بدور العبادة عامة، وفن زخرفة وكتابة المصاحف، لم يكن الفنان المسلم يمارس صناعته كعمل مجرد، ولكن باعتباره نشاطا وثيق الصلة بعالمه الروحي، بانسانيته. من هنا كان للمشكاة موقع خاص لان القرآن الكريم ذكرها لانها شبهت بالكوكب الدري، لان موقعها دائما بأعلي، فاذا تطلع الانسان اليها فانما يتطلع الي السماء في نفس الوقت، ولانها ايضا مصدر النور الذي ذكره الباريء تعالي، والذي يعبر عن مضمون سورة كاملة في القرآن الكريم. نماذج مشهورة وصل الينا من العصر المملوكي عدد كبير من المشكاوات الرائعة، تتوزع الان علي متاحف العالم، انها ابرز ما نراه في الاقسام المخصصة للفن الاسلامي في برلين، في الارميتاج، في اللوفر، أما متحف الفن الاسلامي في القاهرة فيحتفظ بمجموعة نادرة. ما يلفت نظرنا ليس شفافية الزجاج وصفاء ألوانه وعليها نري زخارف مستوحاة من عالم النبات وكتابة عربية، هذه الكتابة اما دينية او تذكارية او تاريخية. الاولي تشمل آيات من القرآن الكريم وكثيرا ما تكتب الآية الكريمة التي تذكر فيها المشكاة، والواردة في سورة النور، او الآية الكريمة »انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر« او آيات اخري، اما الكتابات التذكارية علي المشكاوات فتتضمن حقائق تاريخية واجتماعية قد تساهم احيانا في اثراء مصادر التاريخ اذ تحوي اسم من امر بعمل المشكاة نفسها، وقد يلحق بالاسم وظيفة صاحبه، وتاريخ الصنع، ودعاء له، والمكان الذي صنعت من اجله المشكاة، واحيانا نجد اسم الصانع متواريا، وبأصغر حجم ممكن. الكتابة تحيط الكتابة بدن المشكاة علي هيئة شريط، عند الرقبة، او القاعدة، وجميع المشكاوات التي وصلت الي زمننا من العصر المملوكي كتبت بخط فخم جميل يعرف بالخط النسخ المملوكي وهو قريب من خط الثلث، وكان قد احتل مكانة الخط الكوفي القديم بدءا من القرن السادس الهجري وبلغ ذروة جماله في السابع الهجري. وكثيرا ما نري الكتابات علي المشكاوات تتخلل زخارف نباتية او العكس مستوحاة من اوراق الغصون والازهار، وهذا اسلوب شائع في الكتابة العربية عندما يمتزج الخط والحرف بالغصن والزهرة في المشكاوات يتحقق اقصي قدر من المهارة التي تحقق التوازن بين النبات والخط. احيانا تتخلل شرائط الخط العربي دوائر تحمل رنك السلطان، او الأمير، او الشخص الذي امر بصنع المشكاة، والرنك اي الشعار او العلامة التي يتخذها صاحب سلطة معينة للدلالة علي نفسه وما يتمتع به من قوة او نفوذ. ولكن هذا لا يحتل الا اضيق المساحات في ذلك الجسم الزجاجي، جميل التكوين، بديع النسب، الذي يشع منه الضوء وفي السنوات الاخيرة لاحظت بسبب الحيوية في صناعة المشكاوات، حيث تقدم بعض محلات التحف الشرقية نماذج منها تستوحي الميراث الطويل ، ولكن تظل المشكاة مرتبطة ابدا بالمسجد، فمن سقفه تتدلي وفي فراغه يضيء النور منها سواء كان مصباحا تقليديا في القديم او كهربائيا في زمننا، مرسلا اشعاعه مذكرا دائما بالمصدر الأسني ، كأنها كوكب دري.