جلال عارف عندما رحل عن دنيانا قبل اثنين وأربعين عاما، بكته مصر والأمة العربية كلها، لكن بكاء الفقراء كان أكثر مرارة، وخوفهم من المستقبل بعد غياب عبدالناصر كان أشد! وبالفعل لم تمض إلا سنوات قليلة حتي كان الانقلاب علي كل ما حققته ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر.. بدأت المسيرة إلي كامب ديفيد، وذهبت أوراق اللعبة إلي الأمريكان، وخرجت مصر من عالمها العربي، وكان لابد أن يتوافق ذلك مع انقلاب اجتماعي كامل أنهي انحياز الدولة للفقراء. وهكذا تم طرد الفلاحين من الأراضي التي كانوا يستأجرونها، وتم تعديل قوانين العمل، وبيع القطاع العام بتراب الفلوس، وخرج العمال إلي البطالة والمعاش المبكر، وانفتحت أبواب الرزق الحرام أمام اللصوص والسماسرة، وعاد الفقر يسحق نصف شعب مصر بينما الثروة كلها في يد القلة التي تحكم وتنهب وتسرق عرق العاملين. في ثورة يناير ارتفع صور عبدالناصر في ميادين التحرير. لم يكن ذلك حنينا إلي الماضي بل اعلانا بأن الملايين التي أعلنت الثورة تريد العدل، وتشتاق للكرامة، وتنتظر عودة مصر دولة لكل مواطنيها وقائدة لكل العرب. الآن، وبعد عشرين شهرا من الثورة، يكتشف المواطن ان شيئا لم يتغير، وأن الحكم الجديد يتمسك بنفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يطبقها الحزب الوطني. يقارن الناس بين ما يحدث الآن، وما حدث في أعقاب ثورة يوليو التي أعلنت انحيازها منذ اليوم الأول للعمال والفلاحين والطبقة الوسطي، والتي بدأت علي الفور في تجسيد هذا الانحياز في عملية تغيير شامل للمجتمع، فكان الاصلاح الزراعي بعد شهر ونصف الشهر فقط من الثورة، وكانت القوانين الخاصة بالحد الادني لأجور العمال وتحديد ساعات العمل، وكان برنامج التصنيع القومي، وكانت الحقوق الكاملة للمرأة، وكانت مجانية التعليم والمساواة الكاملة بين المواطنين. في الذكري الثانية والأربعين لرحيله يظل عبدالناصر هو الحاضر الكبير. يثير عند الملايين مشاعر الشوق إلي العدل، ويثير عند البعض مشاعر الخوف من العدل. يذكرنا بالدرس العظيم الذي قدمته يوليو حين تحولت من انقلاب إلي ثورة عظمي، بينما نعيش اليوم محنة تحويل ثورة يناير العظيمة إلي.. انقلاب!! سلاما لمصر وثورتها، وتحية لعبدالناصر في ذكراه.