في حضارات الشعوب ظواهر تبقي وعلامات تعيش، وكرة القدم كنشاط إنساني مؤثر لاشك في حركة الشعوب تعد واحدة من أهم ما يصيغ وجدان الناس، ومن هنا يبقي تأثير هذه اللعبة الرياضية الشعبية الأولي في معظم جنبات المعمورة علي سكان هذا الكوكب كبيرا ولا يستهان به، بل ويدرك قيمته وعمق بصمته رجال السياسة والفكر وعلماء الاجتماع وإن أهملوا بحثها وسبر أغوارها. كلام يبدو تنظيريا، لكنه من المؤكد يرتقي لدرجة تفكير وتعظيم محمود الجوهري لدور وقيمة كرة القدم التي يعد هو واحدا من أهم فلاسفتها وليس فقط لاعبيها أو مدربيها. محمود الجوهري الذي شيعت الجماهير جثمانه بالأمس إلي مثواه الأخير، هو فيلسوف كرة القدم المصرية والعربية في تاريخها، هو رجل آمن بالفكرة.. فكرة أن تكون كرة القدم أداة لإسعاد الشعوب وتطوير فكرها وليس لركلها فقط بالأقدام. ليس من فراغ أن يتفاعل الأمريكي بوب برادلي المدير الفني الحالي لمنتخب مصر مع أجواء جنازة الجوهري ويعلن ناعيا رحيل أشهر من سبق له الجلوس علي مقعده في قيادة الفريق الوطني، ويؤكد ان المنتخب سوف يسعي للتأهل لكأس العالم بالبرازيل لاهدائه إلي روح الجوهري. الجوهري فيلسوف آمن بفكرة مهمة ونافذة إلي وجدان الشعوب وهي: »أن الكرة لا تستحق الركل فقط«.. هي أداة للقمة العيش واحتراف اللعب وتجميع الشعوب، كما انها ليست محلية أو بين جدران محدودة. لأنها ليست للركل فقط، نقل الجوهري هذه الساحرة المستديرة إلي مكاتب العمل والرزق والحياة.. وفرض هذا الفيلسوف فكرته علي المجتمع مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وأدخل إلي هذا البلد الذي وجدت كرة القدم منقوشة علي جدران حضارته وتراثه الإنساني، نظاما جديدا وغريبا لتعرف مصر عالم الاحتراف علي يد هذا الفيلسوف وفكره وفكرته. آمن الجوهري باحترافية الكرة ففرض نظامها وتحدي ودخل في مشاكل جمة، وأبعد ورجع وطرد وعاد.. لكنه لم يتخل عن فكرته وفلسفته، بل ولم يمانع إيمانا منه بالفكرة في أن يحمل فلسفته إلي دار المنافس الأزلي والتاريخي له ولناديه الذي تربي فيه.. ذهب ابن الأهلي لاعبا ومدربا وصانعا للبطولات والنجوم إلي نادي الزمالك المعقل المنافس التاريخي للأهلي.. وتحمل العبء النفسي ودافع عن فكرته ونجح في كثير من تحدياته مع نفسه. بل وتغلب علي بيته، وأسعد منافسيه.. لكنه وعندما ضاقت عقولهم بفلسفته وطالب بعزل فرقته ورجاله عن دائرة مجلس إدارة النادي الأبيض، ورفضوا.. رحل حاملا فلسفته وفكرته إلي بعيد. آمن الفيلسوف بأن كرة القدم ليست للركل فقط، ولا هي أيضا حبيسة الجدران المحلية، وبعد أن وضع بصمته عليها هنا في داخل البلاد وأسعد الملايين من الناس، وتعب وتعب الناس معه، وأقصي وعاد وجددوا الثقة فيه ثم أقالوه قبل أن يعودوا ليسترضوه قبل أن يخلعوه ويرجموه ثم يحضنوه.. كانت صدمته كبيرة في أبنائه وتلاميذه الذين ظن أنهم تعلموا درسه وفهموا فلسفته فلما جاءوا به مديرا فنيا لاتحادهم.. صعب عليهم تحمل رسالته أو تنفيذ فكرته.. فخرج حزينا محبطا، لكنه حمل رؤاه لبلاد لم تكن مطروقة كرويا.. إلي مملكة الهاشميين.. وهناك في الأردن حط الفيلسوف رحاله.. وأتي ببعض من رجاله.. وعمل علي ترسيخ فكرة »عروبية الكرة« ومثلما كانت بصمته ظاهرة في دار آل سعود بالمملكة العربية السعودية، وعلي أرض الإماراتالمتحدة وفي سلطنة عمان.. كانت الأردن قبلته الجديدة.. مات فيها وآخر دروسه تعليم البراعم الصغار فلسفته أن كرة القدم لا تستحق الركل.. هي أداة للحياة والسعادة والفرحة.. مات الجوهري.. ولن تموت فكرته.