رئيس الوزراء يهنئ الشعب المصرى بعيد الأضحى المبارك    وزيرة الهجرة: تفوق الطلبة المصريين في الكويت هو امتداد حقيقي لنجاحات أبناء مصر بمختلف دول العالم    خريطة ساحات صلاة عيد الأضحى في القاهرة والجيزة | فيديو    تنفيذ 4 حالات إزالة فورية لتعد بالبناء المخالف فى الإسماعيلية (صور)    وانكشف الإدعاء على الرئيس مرسي .. "السيسي" يمنح الإمارات حق امتياز قناة السويس ل 30 عاما    هذا نص مقاله .. ديفيد هيرست : "بلينكن" يجر "بايدن "إلى أعماق المستنقع الإسرائيلي بهذه الخطوات ؟    الأكبر خلال الأسابيع الماضية، تظاهرات حاشدة في تل أبيب للمطالبة بإسقاط الحكومة    يورو 2024.. ساوثجيت: عبور دور المجموعات أولوية إنجلترا    مصطفى محمد يخضع لفحص طبي بمعرفة طبيب المنتخب الأولمبي    هاري كين: منتخب إنجلترا يتواجد في ألمانيا للتتويج ب يورو 2024    رياضة الغربية: ساحات مراكز الشباب تستعد لإقامة صلاة عيد الأضحى    يورو 2024 – هاري كين: نحن هنا للفوز باللقب في النهاية    إقبال على شارع المعز في ليلة عيد الأضحى المبارك 2024 (صور)    "بلدي التانية".. عمرو دياب يصل لبيروت    أخبار الفن: المشاهير يؤدون مناسك الحج.. الهضبة يحيي حفل بالأبيض فى لبنان.. وتفاصيل البوكس أوفيس لأفلام عيد الأضحى الأربعة بدور العرض    الشرطة الإسرائيلية تعتقل 5 من المتظاهرين في تل أبيب    سنن صلاة عيد الأضحى المهجورة..تعرف عليها    خطوة بخطوة .. تعرف علي ما سيفعله الحاج يوم العيد    وكيل صحة دمياط يتفقد العمل بمستشفى الحميات: العاملون ملتزمون بمعايير مكافحة العدوى    10 نصائح من معهد التغذية لتجنب عسر الهضم في عيد الأضحي    وفد وزارة العمل يشارك في الجلسة الختامية لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    ازدلاف الحجيج إلى المشعر الحرام    خادم الحرمين وولي العهد يبعثان برقيات تهنئة لقادة الدول الإسلامية بمناسبة عيد الأضحى المبارك    بهاء سلطان يطرح أغنية «ننزل فين» تزامنا مع عيد الأضحى    أمين الفتوى بقناة الناس: رسول الله بلغ الغاية فى حسن الظن بالله    أصغر من 6 لاعبين.. مدرب برايتون الجديد يحقق أرقامًا قياسية في الدوري الإنجليزي    بعد إعلان وفاته.. ما هي آخر جائزة حصل عليها ماتيا ساركيتش؟    «مكنش معايا فلوس للأضحية وفرجت قبل العيد» فهل تجزئ الأضحية دون نية    الزراعة: متبقيات المبيدات يفحص 1500 عينة منتجات غذائية.. اليوم    «الصحة السعودية»: تقديم الرعاية لأكثر من 112 ألف حاج وحاجة حتى وقفة عرفات    محافظ أسوان يتابع تقديم الخدمات الصحية والعلاجية ل821 مواطنًا بإدفو    مجدي بدران يقدم 10 نصائح لتجنب الشعور بالإرهاق في الحر    بمناسبة صيام يوم عرفة، توزيع وجبات الإفطار للمسافرين بالشرقية (فيديو وصور)    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج إعداد معلمي رياض الأطفال ب«تربية القاهرة للطفولة المبكرة»    الأوقاف: خطبة العيد لا تتعدى 10 دقائق وتوجيه بالتخفيف على المصلين    ما أسباب تثبيت الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة؟.. خبير اقتصادي يجيب    موعد صلاة العيد 2024 في الأردن.. اعرف الأماكن    رونالدينيو: لن أشاهد البرازيل في كوبا أمريكا    الإسماعيلى متحفز لإنبى    ماهر المعيقلي خلال خطبة عرفة: أهل فلسطين في "أذى عدو سفك الدماء ومنع احتياجاتهم"    "الخضيري" يوضح وقت مغيب الشمس يوم عرفة والقمر ليلة مزدلفة    كم تكبدت الولايات المتحدة جراء هجمات الحوثيين في البحر الأحمر؟    نقل حفل كاظم الساهر من هرم سقارة ل القاهرة الجديدة.. لهذا السبب    لمواليد برج الجوزاء.. توقعات الأبراج في الأسبوع الثالث من يونيو 2024    خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية    أردوغان: النصر سيكون للشعب الفلسطيني رغم همجية إسرائيل ومؤيديها    مستشفيات جامعة عين شمس تستعد لافتتاح وحدة علاج جلطات ونزيف المخ والسكتة الدماغية    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يختتم فعالياته بإعلان أعضاء المجلس التنفيذي الجُدد    جورج كلونى وجوليا روبرتس يشاركان فى فعالية لجمع التبرعات لحملة بايدن    محطة الدلتا الجديدة لمعالجة مياه الصرف الزراعي تدخل «جينيس» ب4 أرقام قياسية جديدة    نزلا للاستحمام فغرقا سويًا.. مأساة طالبين في "نيل الصف"    «تايمز 2024»: الجامعة المصرية اليابانية ال19 عالميًا في الطاقة النظيفة وال38 بتغير المناخ    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 15 يونيو 2024    المشهد العظيم في اليوم المشهود.. حجاج بيت الله يقفون على جبل عرفات لأداء ركن الحج الأعظم    هالة السعيد: 8.6 مليار جنيه لتنفيذ 439 مشروعا تنمويا في البحيرة بخطة عام 2023-2024    «التموين»: صرف الخبز في المدن الساحلية دون التقيد بمحل الإقامة المدون بالبطاقة    «تقاسم العصمة» بين الزوجين.. مقترح برلماني يثير الجدل    وزير النقل السعودي: 46 ألف موظف مهمتهم خدمة حجاج بيت الله الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الاخبار
محفوظ.. دائماً
نشر في الأخبار يوم 28 - 08 - 2012


مازالت تلك اللحظة تمثل مرجعية لعمري
كله، عندما رأيته لأول مرة..
غداً تكتمل سنوات ست بدون نجيب محفوظ، الإنسان، المبدع العظيم، الحكيم الذي نفتقد رؤاه الآن كثيراً. في ديسمبر 1191 جاء إلي العالم، وفي أغسطس 6002 خرج إلي النور، إلي الأبدية، وما بينهما أبدع للإنسانية ما سيظل خالداً. تلك النصوص الروائية الجميلة، قُدر لي أن أكون آخر من يراه، كان ذلك في مستشفي الشرطة الثانية عشرة ليلاً، قبل النفس الأخير بساعة واحدة. اللحظة الأخيرة تستدعي اللحظة الاولي أعود بالذاكرة إلي يوم جمعة، عندما وقع بصري عليه لأول مرة. أعود الي أوراقي المدونة .
كأني أراه الآن، في حركته، في تقدمه باتجاه المقهي الذي كانت تعقد فيه الندوة الاسبوعية التي ستلعب دوراً كبيراً في تكويني، وبعد أن تنتهي وتتوقف بسبب تدخل الأمن، تستمر علاقتي به حتي اكتمال أجله، دائماً أعود إلي تلك اللحظة، عندما رأيته أول مرة.
إذن.. كان الوقت قبل العاشرة، إذ كان الأستاذ قادماً من ناحية ميدان العتبة الخضراء متجهاً إلي مقهي الأوبرا، ولأنه شديد الدقة فلابد أن الوقت كان دون العاشرة بدقائق، كان ذلك عام تسعة وخمسين، أحد أيام الجمع الخريفية.
كان يرتدي حلة رمادية، وكان متين البنية، يمشي بقامة مفرودة، يميل قليلا إلي الخلف، وعينان تتطلعان إلي الأمام، نظرة تنتمي إلي أعلي، لا تتجه إلي أسفل، كانت قامته أطول مما هي عليه في الاعوام الأخيرة من عمره، لم تكن الشيخوخة سبباً وحيداً لضموره، لكنه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به منذ اكتشافه مرض السكر عام اثنين وستين بالصدفة عندما اضطر إلي إجراء عدة تحليلات طبية كان لابد منها لإتمام إجراءات خاصة بالتأمين علي الحياة، منذ ذلك الحين لم يأكل إلا المسلوق وبكميات ضئيلة، قال لي يوماً: إن المعدة تنكمش وتتكيف مع كمية الطعام التي تتلقاها. أحياناً أثناء تناولنا العشاء كنا ندس له في الطبق قطعة صغيرة من الكفتة، لكنه سرعان ما يكتشفها، فما يأكله محدود بدقة محفوظية صارمة، حتي فنجان القهوة يرشفه بنظام، في البداية يرشف »الوش« مع أنفاس السيجارة، ثم رشفة أخري، ثم يغطي الفنجان بالطبق الصغير، وبعد حوالي ثلاث دقائق يعود إليه. حتي رحيله كان يدخن ثلاث سجائر في اليوم، طبقاً لتعليمات الطبيب، وبرشاقة محفوظية يقول:
»وأحياناً أزوغ نفسين من رابعة..«
إنه مدخن قديم، ومنه تعلمت تدخين النرجيلة، عندما عرفته كان مازال يدخنها، يتردد علي مقهي الفيشاوي، ومقهي عرابي، علاقته بالفيشاوي ومقاهي الجمالية قديمة تعود إلي أيام فتوته، وخلال عمله موظفاً بالأوقاف نُقل مغضوباً عليه إلي قبة الغوري، تغيرت وزارة حزب الوفد بوزارة أخري، وكان يشغل منصب السكرتير البرلماني لوزير الأوقاف، الشيخ مصطفي عبدالرازق وزير الأوقاف، وكان أستاذه في الجامعة، كان عمله يتلخص في إعداد الرد علي الاستجوابات التي تقدم إلي الوزير في البرلمان، وعندما نقل إلي قبة الغوري أصبح موظفاً في صندوق الدين الذي كان يقدم القروض الحسنة للأهالي أي بدون فائدة أو بفوائد ميسرة، كان عملاً مسلياً كما يقول، تعامل خلاله مع الناس وأبناء البلد، لكن أهم ما اكتشفه في قبة الغوري المكتبة العامرة والتي كانت تضم نفائس نادرة منها نسخة أصلية لرواية مارسيل بروست الشهيرة »البحث عن الزمن الضائع« بالفرنسية والتي عكف علي قراءتها بتأن، كان يختلس بعض اللحظات ليمضي إلي المقهي ويجلس وحيداً، النرجيلة أفضل صديق يؤنس الوحدة، إنها صديق صامت كما يصفها محفوظ، توقف عن تدخينها في مطلع الستينات وحل بدلها السجائر التي علقت به حتي النهاية.
في تلك اللحظة النائية التي رأيته فيها لأول مرة، كان عمره تسعة وأربعين عاماً، وكنت أخطو نحو عامي الخامس عشر، لا أدري كيف عرفت أنه نجيب محفوظ، لم يكن التليفزيون قد دخل إلي حياتنا بعد، ربما من صورته التي نشرت له علي الغلاف الداخلي لرواية »خان الخليلي« وربما من صور أخري نشرت في بعض الصحف والمجلات الأخري. كنت أقف في مواجهة الجانب الجنوبي للأوبرا القديمة، الجميلة، التي افتتحت في عهد الخديو اسماعيل بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس، واحترقت عام واحد وسبعين في القرن الماضي في مفتتح عهد الرئيس أنور السادات، وبذلك اختفي معلم مهم وجميل ورمز من وسط المدينة ليحل مكانه جراج متعدد الطوابق!!
كنت أقف منتظراً صديق وزميل دراسة، يسكن تلك العمارة القديمة المطلة علي شارع عبدالخالق ثروت باشا عندما ظهر نجيب محفوظ، كنت أمسك مجموعة قصصية لأنطون تشيخوف ترجمها إلي العربية الدكتور محمد القصاص، ومازلت أحتفظ في مكتبتي بتلك المجموعة الجميلة. تقدمت منه، وعندما نطقت بالتحية أطلت عليّ نظرته الهادئة، المتأملة، التي لم تغيرها السنوات وتواليها وما تحفل به، عين النظرة التي أراها حتي الآن عبر الذاكرة رغم أن العينين أدركهما الوهن، وأصبحتا غير قادرتين علي القراءة، وضاق مدي الرؤية، فلا يميز الشخص إلا من مسافة قصيرة، لكن ما تزال نظرته تلك تضفي حضوراً خاصاً يميز ملامحه، يتلخص في كلمة واحدة »طيب«، في العامية المصرية كلمة دالة، كلمة »طيب« أنها تعني الرقة، والخصال الحسنة، وحب الخير، وكل ما هو إنساني جميل، لا أجد إلا تلك الكلمة تلخص نظرة محفوظ وتطلعه إليّ .
»صباح الخير يا أستاذ نجيب..«
»صباح النور.. أهلاً..«
قلت له إنني مبسوط لرؤيته، وإنني أقرأ له، وأحببت ما قرأت، وإنني أكتب أيضاً، أبدي ترحيباً، ودعاني إلي الندوة الأسبوعية، قال بصيغة الجمع: »احنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة عشرة..«
في الأسبوع التالي مباشرة، في تمام العاشرة كنت أدخل القاعة في المقهي أوروبي الطابع، أي إنه مقهي بدون نرجيلة، بدون لعب طاولة أو دومينو، كان يحتل الطابق الثاني من مبني يتكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأول يحتله مقهي أنيق، تقدم فيه النرجيلة، وكان من المقاهي القليلة وقتئذ في القاهرة الذي يمكن أن يري فيه المرء نساء يجلسن لتدخين النرجيلة، الطابق الثاني كان مقهي تقدم فيه المشاريب فقط، أما الثالث فكان له مدخل جانبي خاص، إذ كان عبارة عن ملهي ليلي، معروف باسم صاحبة المبني كله، الراقصة صفية حلمي، الطابق الثالث لا يعمل إلا بعد العاشرة ليلاً، وله مدخل منفصل، لذلك لم يكن جزءاً من الطابقين الأول والثاني، المتصلين عن طريق سلم واحد، كل منهما يؤدي إلي الآخر، وكان المشاهير يقصدون المقهي ويجلسون فيه، ويبدو أن إدارة المقهي كانت ترحب بندوة محفوظ الأسبوعية، فكانت الموائد تنضم إلي بعضها بشكل طولي، وينتظم حولها الأدباء والمريدون، بينما يتصدر محفوظ الجلسة، إذ كان الجميع يتحلقون حوله، كان يصغي ويشارك، ويطرح الأسئلة، وكان يجلس حوله، الأديب حضرمي الأصل أحمد علي باكثير، والأديب عبدالحميد جودة السحار، والأديب ثروت أباظة، ومن رواد المقهي الشباب وقتئذ القصاص أحمد نوح، وكان صاحب روح ساخرة، سريع النكتة، يكتب قصصاً قصيرة ساخرة، اختفي ولم يعد له ذكر، لا أدري شيئاً عنه الآن، كان هناك الأديب صبري موسي، الذي أبدي محفوظ إعجاباً بمجموعته القصصية »حكايات صبري موسي« التي صدرت في الكتاب الذهبي، أذكر أنه وصفها بخطوة مهمة في سبيل وصل القصة القصيرة بفن المقامة، غير أن صبري موسي لم يواصل ما بدأه، غير أن أهم من التقيت بهم في الندوة زملائي أدباء الستينيات.
كانت الندوة أهم نقطة تحلق حلوها هذا الجيل وتكوّن.
أذكر مقابلتي الأولي لمحمد البساطي، ويوسف القعيد كان قد أنهي خدمته العسكرية للتو، بالأمس، وعند خروجه إلي الحياة المدنية قصد ندوة نجيب محفوظ، لولا تلك الندوة لأمضينا عدة أعوام حتي يتم لقاؤنا، أعني أدباء الستينيات، ولذلك أعتبرها من التجمعات الأدبية المهمة التي لعبت دوراً في تقارب وتفاعل أبناء هذا الجيل، وعندما أقول ندوة محفوظ فإنني لا أقصد هذا المكان الذي جلست إليه فيه لأول مرة، إذ انتقلت الندوة بعد إيقافها عام واحد وستين، في عدة أماكن أخري حتي استقر بها المقام في كازينو قصر النيل، وفيه انتهي اللقاء المفتوح بعد محاولة اغتيال الأستاذ عام أربعة وستين ليبدأ زمن الأماكن المغلقة والتي عاش يمقتها طوال عمره، إذ عاش عمره يسعي بين الناس، يسعي بالمعني الحرفي للكلمة، يخرج من بيته في العجوزة السادسة صباحاً ليمشي حتي وسط البلد، ليرشف فنجان القهوة ويقرأ الصحف، ثم يذهب إلي مكتبه أيام الوظيفة، ويعود إلي بيته في سنوات المعاش.
توقف هذا كله، وبدأ منذ عام خمسة وتسعين زمن الأماكن المغلقة، المحروسة بأفراد الأمن، الأمن نفسه الذي وضع حداً لنهاية لقاء الجمعة الأسبوعي في مقهي الأوبرا!
استمرت تلك الندوة سبعة عشر عاماً تقريباً، لم يتخلف عنها محفوظ قط إلا في أيام اجازته السنوية التي كان يبدأ فيها ندوة أخري مع توفيق الحكيم أمام البحر. لو أن المناقشات الأدبية التي دارت عبر تلك السنوات السبع عشر سجلت، لحفظ لنا التاريخ وثيقة حية ذات شأن. كانت الحوارات جادة، يتخللها الضحك أحياناً، خاصة مع »قفشات« محفوظ الشهيرة التي مازال ذهنه يتمتع بالحدة والرهافة التي تمكنه من إطلاق النكات التي تجعلنا أحياناً نبكي من شدة الضحك، سنوات طويلة نهاية المرحلة، نتحلق حوله، وذات صباح وصلت إلي كازينو الأوبرا مبكراً، كان محفوظ يجلس بمفرده، أدركتني رهبة، جلست أمامه صامتاً، وفجأة سألني بحنو:
»جمال.. إنت بتكتب ليه..«
بوغت بالسؤال، قلت بعد حيرة:
»باكتب لأني عاوز أكتب..«
الآن.. عندما أستعيد صوته، وإلقاؤه السؤال، أكاد أثق أنه كان يسأل نفسه قبل أن يسألني، وعندما أستعيد طلته عليّ عندما تقدمت منه لأول مرة، أكاد أراها في عينيه عندما قابلته أول دخوله جلستنا كل ثلاثاء، أو عند دخولي عليه، طلة طيبة، رحيمة، أصيلة، لم تتبدل رغم بلوغه مرحلة متقدمة في العمر، اكتملت رحلته وهو في الرابعة والتسعين، اتصلت علاقتنا وتطورت عبر السنين، انتقلت بصحبته وتحت رعايته من الشباب إلي الشيخوخة، عشت معه أفراح وأحزان الوطن والإنسانية، كذلك خلجاتنا الشخصية، أحزاننا وأفراحنا، إذ تحل ذكراه فإنني لا أستعيد عمري بمراحله من الصبا إلي الشيخوخة، وأيامنا التي كانت.
صورة للأبدية
الآن، صورته أمامي، في مكتبي، أو منزلي، صورة التقطتها عام اثنين وتسعين، أعلق نسخة مكبرة منها، صورة لنجيب محفوظ، في بيت السحيمي، لست متقناً لفن التصوير، لذلك اعتدت أن أصحب آلة بسيطة، تعمل بشكل آلي، لا تحتاج إلي ضبط، فرغم عملي الطويل مع مصورين كبار من أبناء »أخبار اليوم« واقترابي ومرافقتي لمكرم جاد الكريم، ولمحمد عبدالرحمن إلا أنني لم أتقن هذا الفن، ولم أحاول فهم أسراره منهم، بل إنني في السنوات الأخيرة لم أعد أهتم بتسجيل اللحظات المهمة التي تمر بي، وكثيراً ما أسافر بدون آلة تصوير، كما إنني لا أشعر بحماس عندما يدعوني أحدهم إلي مواجهة الكاميرا، عدم حماس ربما مبعثه أن كل شيء زائل، وإنني في مرحلة ترتيب الأوضاع والأوراق قبل السفر الذي سبقني إليه أستاذي ومعلمي. لكم مررت بفرص كان ممكناً أن أفهم خلالها سر الضوء، والتحكم فيه إلا أنني لم أتقن فن التصوير، اعتمدت علي تلك الآلة الآلية لالتقاط لحظات حميمة أو فريدة خلال رحلاتي. في عام اثنين وتسعين من القرن الماضي قال لي نجيب محفوظ إنه يرغب في زيارة الجمالية وبيت السحيمي بالتحديد، اتفقنا علي موعد في الصباح، جاء في عربة أجرة صغيرة إلي ميدان بيت القاضي الذي وُلد فيه، في ذلك الوقت كان يتحرك بمفرده، حراً بدون حراسة، وظل الأمر كذلك حتي عام أربعة وتسعين عندما وقعت محاولة الاغتيال الآثمة فتبدلت ظروفه تماماً، ولهذا حديث آخر. نزل متوكئاً علي عصا نحتها وهذبها صديقه الفنان أحمد مظهر من حديقة بيته. مشينا إلي بيت السحيمي القريب، اعتدت في صحبتي له عبر حواري وأزقة القاهرة القديمة أن أحترم صمته واستغراقه، فمجيء الإنسان إلي مكان ارتبط به وصار يمثل بالنسبة إليه حجر الزاوية في حياته، ذهاب المرء إليه يعني الرغبة في استعادة ذكريات، لحظات من الزمن المنقضي. الجمالية بالنسبة له كانت منبعاً ومصدراً لإلهامه وإبداعه، وعبر حوالي خمسة وأربعين عاماً أصبحت أعرف عاداته وما يمكن أن يقوله إذا تحاورنا، أصبح لرفقتي له آداب ألتزم بها. في الجمالية أثناء تجوالنا لم أكن أبادر بالنطق إلا إذا تحدث هو .
لماذا اصطحبت معي آلة التصوير البسيطة ذلك اليوم؟
لا أذكر، لا يمكنني استعادة الدافع، راح من ذاكرتي. عند انصرافنا، مضينا عبر الممر المؤدي إلي الباب، تبعته علي بعد خطوتين، في لحظة خاطفة صوبت آلة التصوير وضغط الزر، لماذا قمت بتصويره من الخلف؟ لا أدري، طبعت الفيلم، لقطات عديدة مع طالبات الثانوي وهن يحطن به، عند نزوله من عربة الأجرة، ظلت الصور في أحد أدراج مكتبي، لم أنشر منها أي لقطة، بعد الرحيل، رحت أفحص ما قمت بتصويره خلال حوالي ربع قرن، فجأة وجدت هذه الصورة، تلك اللقطة في يدي، كان ذلك اليوم السابق علي طبع »أخبار الأدب« هكذا ظهرت اللقطة وكأنه يودع الكون كله متجهاً الي هذا الضوء الساطع، لذلك أطلقت عليها »الخروج إلي النهار« عنوان الكتاب المقدس لمصر القديمة، وكلما سألني سائل عن أسرارها أبتسم تماماً كأن الأستاذ يبتسم إذا رغب أن يسخر من أمر ما!
منذ سنوات زارني مصور فرنسي شهير اشتركنا معاً في إصدار كتاب عن القاهرة، كتبت له مقدمة طويلة تكاد تكون كتاباً متكاملاً، تطلع بدهشة وإعجاب إلي الصورة المعلقة في مواجهتي، قال إنها فنية جداً، راح يسألني عن الفتحات التي استخدمتها وعن كيفية مواجهة الضوء، أسئلة فنية جدا رددها عليّ الصديق أيمن الصياد رئيس تحرير مجلة »وجهات نظر« عندما قرر نشرها علي غلاف المجلة رغم ظهورها علي غلاف جريدة »أخبار الأدب« بعد رحيل الأستاذ مباشرة.
أسئلة لم أعرف كيف أجيب عليها، ليس عن رغبة في الاخفاء، ولكن عن جهل بما فعلت، مازلت أذكر قول المصور الفرنسي بعد أن لاحظ ترددي:
»إنني أحترم حرصك علي أسرارك..«
أما الفنان فاروق ابراهيم رحمه الله فلن أنسي تعليقه، ان هذه الصورة من أكثر اللقطات التي أراها فنية وبراعة، إن في مكتبتي الخاصة أو في مكتبي بمنزلي ، بدار أخبار اليوم أتطلع إلي نجيب محفوظ يتجه إلي النور المنبعث من فناء بيت السحيمي، في كل لحظة ماثل أمامي من الخلف، أنظر إليه وكأني أتبعه، مازلت.
حكم الإخوان
كان ذلك قبل رحيله بحوالي عام، كنا في فرح بوت، القارب السياحي الذي أمضينا فيه لقاءاتنا خلال العشرين عاماً الأخيرة، استضافنا فيه صاحبه الدكتور ابراهيم كامل، ويشاء القدر أن تنتقل ملكية المركب إلي رجل أعمال آخر في نفس الأسبوع الذي بدأ فيه محفوظ مرض الموت. أعود إلي تلك الليلة، كنا حوله، الأبنودي، القعيد، زكي سالم، نعيم صبري، مجدي سعد المحامي، حسن ناصر، العمدة عماد العبودي، سامي التهامي، محمد شعير الذي حاء لغرض يخص »أخبار الأدب«.. جري الحديث حول الأوضاع، وتحدثنا في كل شيء، فجأة ساد صمت، كان وضعه ينبئ بأنه سيقول شيئاً، فجأة قال:
»اسمعوا.. يظهر ان المصريين عاوزين يجربوا حكم الإخوان..«
أصغينا بدهشة، تري.. ماذا يقول لو امتد به الأجل إلي اليوم ورأي ما رأينا ونراه؟..
من ديوان النثر العربي:
أحس بحزن عميق كأنما يري مصرعه فيما وراء الغيب.
»بين القصرين«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.