"إبراهيم" يتفقد أعمال امتحانات الفصل الدراسي الأول بجامعة كفر الشيخ الأهلية    جامعة بنها تراجع منظومة الجودة والسلامة والصحة المهنية لضمان بيئة عمل آمنة    سكرتير مساعد الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمدينة دكرنس    تراجع أسواق الخليج وسط تداولات محدودة في موسم العطلات    نائب محافظ الجيزة يتفقد عددا من المشروعات الخدمية بمركز منشأة القناطر    الكوميسا: الاعتراف الإسرائيلي ب "أرض الصومال" بلا قيمة قانونية ويهدد استقرار القرن الأفريقي    الاحتلال الإسرائيلي يغلق بوابة "عطارة" وينصب حاجزا قرب قرية "النبي صالح"    ترامب يعلن توقف القتال الدائر بين تايلاند وكمبوديا مؤقتا: واشنطن أصبحت الأمم المتحدة الحقيقية    إصابة محمود جهاد وإيشو خلال مباراة الزمالك وبلدية المحلة    الانتهاء من تطوير ملعب مركز شباب الأحراز بالقليوبية    حبس مسؤولي مركز إدمان مخالف بالمريوطية بعد واقعة هروب جماعي    «مراكز الموت» في المريوطية.. هروب جماعي يفضح مصحات الإدمان المشبوهة    هذا هو سبب وفاة مطرب المهرجانات دق دق صاحب أغنية إخواتي    الازهر للفتوى: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل من خلال ظواهر الكون جريمة    رئيس وزراء بولندا: وجود ضمانات أمنية ملموسة لأوكرانيا تعني بولندا أكثر أمانًا    مبادرة تصفير الدين مقابل الأصول تثير جدلًا واسعًا بين الخبراء والمصرفيون    ضبط 3 متهمين تعدوا على جيرانهم وجرحوا أحدهم فى خلافات سكنية    سقوط عنصرين جنائيين لغسل 100 مليون جنيه من تجارة المخدرات    محافظ الجيزة يشارك في الاجتماع الشهري لمجلس جامعة القاهرة    نجوم الفن يشيعون جثمان المخرج داود عبد السيد.. صور    «اليوم السابع» نصيب الأسد.. تغطية خاصة لاحتفالية جوائز الصحافة المصرية 2025    ميلان يضرب بقوة ويكتسح فيرونا بثلاثية نظيفة في الكالتشيو    انطلاق أعمال لجنة اختيار قيادات الإدارات التعليمية بالقليوبية    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    أكرم القصاص للأحزاب الجديدة: البناء يبدأ من القاعدة ووسائل التواصل نافذة التغيير    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    من مستشفيات ألمانيا إلى الوفاة، تفاصيل رحلة علاج مطرب المهرجانات "دقدق"    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    الزمالك يصل ملعب مباراته أمام بلدية المحلة    الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية تحتفل بيوبيلها الفضي.. 25 عامًا من العطاء الثقافي وصون التراث    رحيل أسطورة الشاشة الفرنسية بريجيت باردو عن عمر 91 عامًا    وليد الركراكي: أشرف حكيمي مثل محمد صلاح لا أحد يمكنه الاستغناء عنهما    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    قيادات الأزهر يتفقدون انطلاق اختبارات المرحلة الثالثة والأخيرة للابتعاث العام 2026م    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    انتظام حركة المرور بدمياط رغم سوء الأحوال الجوية    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    مي كساب تبدأ تصوير مسلسل «نون النسوة» استعدادًا لرمضان 2026    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    «ليمتلس ناتشورالز» تعزز ريادتها في مجال صحة العظام ببروتوكول تعاون مع «الجمعية المصرية لمناظير المفاصل»    ولادة عسيرة للاستحقاقات الدستورية العراقية قبيل عقد أولى جلسات البرلمان الجديد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    أحمد سامي: تعرضت لضغوطات كبيرة في الاتحاد بسبب الظروف الصعبة    أمم أفريقيا 2025.. تشكيل بوركينا فاسو المتوقع أمام الجزائر    العراق يتسلم 6 مروحيات "كاراكال" فرنسية لتعزيز الدفاع الجوي    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    لافروف: القوات الأوروبية في أوكرانيا أهداف مشروعة للجيش الروسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الاخبار
محفوظ.. دائماً
نشر في الأخبار يوم 28 - 08 - 2012


مازالت تلك اللحظة تمثل مرجعية لعمري
كله، عندما رأيته لأول مرة..
غداً تكتمل سنوات ست بدون نجيب محفوظ، الإنسان، المبدع العظيم، الحكيم الذي نفتقد رؤاه الآن كثيراً. في ديسمبر 1191 جاء إلي العالم، وفي أغسطس 6002 خرج إلي النور، إلي الأبدية، وما بينهما أبدع للإنسانية ما سيظل خالداً. تلك النصوص الروائية الجميلة، قُدر لي أن أكون آخر من يراه، كان ذلك في مستشفي الشرطة الثانية عشرة ليلاً، قبل النفس الأخير بساعة واحدة. اللحظة الأخيرة تستدعي اللحظة الاولي أعود بالذاكرة إلي يوم جمعة، عندما وقع بصري عليه لأول مرة. أعود الي أوراقي المدونة .
كأني أراه الآن، في حركته، في تقدمه باتجاه المقهي الذي كانت تعقد فيه الندوة الاسبوعية التي ستلعب دوراً كبيراً في تكويني، وبعد أن تنتهي وتتوقف بسبب تدخل الأمن، تستمر علاقتي به حتي اكتمال أجله، دائماً أعود إلي تلك اللحظة، عندما رأيته أول مرة.
إذن.. كان الوقت قبل العاشرة، إذ كان الأستاذ قادماً من ناحية ميدان العتبة الخضراء متجهاً إلي مقهي الأوبرا، ولأنه شديد الدقة فلابد أن الوقت كان دون العاشرة بدقائق، كان ذلك عام تسعة وخمسين، أحد أيام الجمع الخريفية.
كان يرتدي حلة رمادية، وكان متين البنية، يمشي بقامة مفرودة، يميل قليلا إلي الخلف، وعينان تتطلعان إلي الأمام، نظرة تنتمي إلي أعلي، لا تتجه إلي أسفل، كانت قامته أطول مما هي عليه في الاعوام الأخيرة من عمره، لم تكن الشيخوخة سبباً وحيداً لضموره، لكنه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به منذ اكتشافه مرض السكر عام اثنين وستين بالصدفة عندما اضطر إلي إجراء عدة تحليلات طبية كان لابد منها لإتمام إجراءات خاصة بالتأمين علي الحياة، منذ ذلك الحين لم يأكل إلا المسلوق وبكميات ضئيلة، قال لي يوماً: إن المعدة تنكمش وتتكيف مع كمية الطعام التي تتلقاها. أحياناً أثناء تناولنا العشاء كنا ندس له في الطبق قطعة صغيرة من الكفتة، لكنه سرعان ما يكتشفها، فما يأكله محدود بدقة محفوظية صارمة، حتي فنجان القهوة يرشفه بنظام، في البداية يرشف »الوش« مع أنفاس السيجارة، ثم رشفة أخري، ثم يغطي الفنجان بالطبق الصغير، وبعد حوالي ثلاث دقائق يعود إليه. حتي رحيله كان يدخن ثلاث سجائر في اليوم، طبقاً لتعليمات الطبيب، وبرشاقة محفوظية يقول:
»وأحياناً أزوغ نفسين من رابعة..«
إنه مدخن قديم، ومنه تعلمت تدخين النرجيلة، عندما عرفته كان مازال يدخنها، يتردد علي مقهي الفيشاوي، ومقهي عرابي، علاقته بالفيشاوي ومقاهي الجمالية قديمة تعود إلي أيام فتوته، وخلال عمله موظفاً بالأوقاف نُقل مغضوباً عليه إلي قبة الغوري، تغيرت وزارة حزب الوفد بوزارة أخري، وكان يشغل منصب السكرتير البرلماني لوزير الأوقاف، الشيخ مصطفي عبدالرازق وزير الأوقاف، وكان أستاذه في الجامعة، كان عمله يتلخص في إعداد الرد علي الاستجوابات التي تقدم إلي الوزير في البرلمان، وعندما نقل إلي قبة الغوري أصبح موظفاً في صندوق الدين الذي كان يقدم القروض الحسنة للأهالي أي بدون فائدة أو بفوائد ميسرة، كان عملاً مسلياً كما يقول، تعامل خلاله مع الناس وأبناء البلد، لكن أهم ما اكتشفه في قبة الغوري المكتبة العامرة والتي كانت تضم نفائس نادرة منها نسخة أصلية لرواية مارسيل بروست الشهيرة »البحث عن الزمن الضائع« بالفرنسية والتي عكف علي قراءتها بتأن، كان يختلس بعض اللحظات ليمضي إلي المقهي ويجلس وحيداً، النرجيلة أفضل صديق يؤنس الوحدة، إنها صديق صامت كما يصفها محفوظ، توقف عن تدخينها في مطلع الستينات وحل بدلها السجائر التي علقت به حتي النهاية.
في تلك اللحظة النائية التي رأيته فيها لأول مرة، كان عمره تسعة وأربعين عاماً، وكنت أخطو نحو عامي الخامس عشر، لا أدري كيف عرفت أنه نجيب محفوظ، لم يكن التليفزيون قد دخل إلي حياتنا بعد، ربما من صورته التي نشرت له علي الغلاف الداخلي لرواية »خان الخليلي« وربما من صور أخري نشرت في بعض الصحف والمجلات الأخري. كنت أقف في مواجهة الجانب الجنوبي للأوبرا القديمة، الجميلة، التي افتتحت في عهد الخديو اسماعيل بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس، واحترقت عام واحد وسبعين في القرن الماضي في مفتتح عهد الرئيس أنور السادات، وبذلك اختفي معلم مهم وجميل ورمز من وسط المدينة ليحل مكانه جراج متعدد الطوابق!!
كنت أقف منتظراً صديق وزميل دراسة، يسكن تلك العمارة القديمة المطلة علي شارع عبدالخالق ثروت باشا عندما ظهر نجيب محفوظ، كنت أمسك مجموعة قصصية لأنطون تشيخوف ترجمها إلي العربية الدكتور محمد القصاص، ومازلت أحتفظ في مكتبتي بتلك المجموعة الجميلة. تقدمت منه، وعندما نطقت بالتحية أطلت عليّ نظرته الهادئة، المتأملة، التي لم تغيرها السنوات وتواليها وما تحفل به، عين النظرة التي أراها حتي الآن عبر الذاكرة رغم أن العينين أدركهما الوهن، وأصبحتا غير قادرتين علي القراءة، وضاق مدي الرؤية، فلا يميز الشخص إلا من مسافة قصيرة، لكن ما تزال نظرته تلك تضفي حضوراً خاصاً يميز ملامحه، يتلخص في كلمة واحدة »طيب«، في العامية المصرية كلمة دالة، كلمة »طيب« أنها تعني الرقة، والخصال الحسنة، وحب الخير، وكل ما هو إنساني جميل، لا أجد إلا تلك الكلمة تلخص نظرة محفوظ وتطلعه إليّ .
»صباح الخير يا أستاذ نجيب..«
»صباح النور.. أهلاً..«
قلت له إنني مبسوط لرؤيته، وإنني أقرأ له، وأحببت ما قرأت، وإنني أكتب أيضاً، أبدي ترحيباً، ودعاني إلي الندوة الأسبوعية، قال بصيغة الجمع: »احنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة عشرة..«
في الأسبوع التالي مباشرة، في تمام العاشرة كنت أدخل القاعة في المقهي أوروبي الطابع، أي إنه مقهي بدون نرجيلة، بدون لعب طاولة أو دومينو، كان يحتل الطابق الثاني من مبني يتكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأول يحتله مقهي أنيق، تقدم فيه النرجيلة، وكان من المقاهي القليلة وقتئذ في القاهرة الذي يمكن أن يري فيه المرء نساء يجلسن لتدخين النرجيلة، الطابق الثاني كان مقهي تقدم فيه المشاريب فقط، أما الثالث فكان له مدخل جانبي خاص، إذ كان عبارة عن ملهي ليلي، معروف باسم صاحبة المبني كله، الراقصة صفية حلمي، الطابق الثالث لا يعمل إلا بعد العاشرة ليلاً، وله مدخل منفصل، لذلك لم يكن جزءاً من الطابقين الأول والثاني، المتصلين عن طريق سلم واحد، كل منهما يؤدي إلي الآخر، وكان المشاهير يقصدون المقهي ويجلسون فيه، ويبدو أن إدارة المقهي كانت ترحب بندوة محفوظ الأسبوعية، فكانت الموائد تنضم إلي بعضها بشكل طولي، وينتظم حولها الأدباء والمريدون، بينما يتصدر محفوظ الجلسة، إذ كان الجميع يتحلقون حوله، كان يصغي ويشارك، ويطرح الأسئلة، وكان يجلس حوله، الأديب حضرمي الأصل أحمد علي باكثير، والأديب عبدالحميد جودة السحار، والأديب ثروت أباظة، ومن رواد المقهي الشباب وقتئذ القصاص أحمد نوح، وكان صاحب روح ساخرة، سريع النكتة، يكتب قصصاً قصيرة ساخرة، اختفي ولم يعد له ذكر، لا أدري شيئاً عنه الآن، كان هناك الأديب صبري موسي، الذي أبدي محفوظ إعجاباً بمجموعته القصصية »حكايات صبري موسي« التي صدرت في الكتاب الذهبي، أذكر أنه وصفها بخطوة مهمة في سبيل وصل القصة القصيرة بفن المقامة، غير أن صبري موسي لم يواصل ما بدأه، غير أن أهم من التقيت بهم في الندوة زملائي أدباء الستينيات.
كانت الندوة أهم نقطة تحلق حلوها هذا الجيل وتكوّن.
أذكر مقابلتي الأولي لمحمد البساطي، ويوسف القعيد كان قد أنهي خدمته العسكرية للتو، بالأمس، وعند خروجه إلي الحياة المدنية قصد ندوة نجيب محفوظ، لولا تلك الندوة لأمضينا عدة أعوام حتي يتم لقاؤنا، أعني أدباء الستينيات، ولذلك أعتبرها من التجمعات الأدبية المهمة التي لعبت دوراً في تقارب وتفاعل أبناء هذا الجيل، وعندما أقول ندوة محفوظ فإنني لا أقصد هذا المكان الذي جلست إليه فيه لأول مرة، إذ انتقلت الندوة بعد إيقافها عام واحد وستين، في عدة أماكن أخري حتي استقر بها المقام في كازينو قصر النيل، وفيه انتهي اللقاء المفتوح بعد محاولة اغتيال الأستاذ عام أربعة وستين ليبدأ زمن الأماكن المغلقة والتي عاش يمقتها طوال عمره، إذ عاش عمره يسعي بين الناس، يسعي بالمعني الحرفي للكلمة، يخرج من بيته في العجوزة السادسة صباحاً ليمشي حتي وسط البلد، ليرشف فنجان القهوة ويقرأ الصحف، ثم يذهب إلي مكتبه أيام الوظيفة، ويعود إلي بيته في سنوات المعاش.
توقف هذا كله، وبدأ منذ عام خمسة وتسعين زمن الأماكن المغلقة، المحروسة بأفراد الأمن، الأمن نفسه الذي وضع حداً لنهاية لقاء الجمعة الأسبوعي في مقهي الأوبرا!
استمرت تلك الندوة سبعة عشر عاماً تقريباً، لم يتخلف عنها محفوظ قط إلا في أيام اجازته السنوية التي كان يبدأ فيها ندوة أخري مع توفيق الحكيم أمام البحر. لو أن المناقشات الأدبية التي دارت عبر تلك السنوات السبع عشر سجلت، لحفظ لنا التاريخ وثيقة حية ذات شأن. كانت الحوارات جادة، يتخللها الضحك أحياناً، خاصة مع »قفشات« محفوظ الشهيرة التي مازال ذهنه يتمتع بالحدة والرهافة التي تمكنه من إطلاق النكات التي تجعلنا أحياناً نبكي من شدة الضحك، سنوات طويلة نهاية المرحلة، نتحلق حوله، وذات صباح وصلت إلي كازينو الأوبرا مبكراً، كان محفوظ يجلس بمفرده، أدركتني رهبة، جلست أمامه صامتاً، وفجأة سألني بحنو:
»جمال.. إنت بتكتب ليه..«
بوغت بالسؤال، قلت بعد حيرة:
»باكتب لأني عاوز أكتب..«
الآن.. عندما أستعيد صوته، وإلقاؤه السؤال، أكاد أثق أنه كان يسأل نفسه قبل أن يسألني، وعندما أستعيد طلته عليّ عندما تقدمت منه لأول مرة، أكاد أراها في عينيه عندما قابلته أول دخوله جلستنا كل ثلاثاء، أو عند دخولي عليه، طلة طيبة، رحيمة، أصيلة، لم تتبدل رغم بلوغه مرحلة متقدمة في العمر، اكتملت رحلته وهو في الرابعة والتسعين، اتصلت علاقتنا وتطورت عبر السنين، انتقلت بصحبته وتحت رعايته من الشباب إلي الشيخوخة، عشت معه أفراح وأحزان الوطن والإنسانية، كذلك خلجاتنا الشخصية، أحزاننا وأفراحنا، إذ تحل ذكراه فإنني لا أستعيد عمري بمراحله من الصبا إلي الشيخوخة، وأيامنا التي كانت.
صورة للأبدية
الآن، صورته أمامي، في مكتبي، أو منزلي، صورة التقطتها عام اثنين وتسعين، أعلق نسخة مكبرة منها، صورة لنجيب محفوظ، في بيت السحيمي، لست متقناً لفن التصوير، لذلك اعتدت أن أصحب آلة بسيطة، تعمل بشكل آلي، لا تحتاج إلي ضبط، فرغم عملي الطويل مع مصورين كبار من أبناء »أخبار اليوم« واقترابي ومرافقتي لمكرم جاد الكريم، ولمحمد عبدالرحمن إلا أنني لم أتقن هذا الفن، ولم أحاول فهم أسراره منهم، بل إنني في السنوات الأخيرة لم أعد أهتم بتسجيل اللحظات المهمة التي تمر بي، وكثيراً ما أسافر بدون آلة تصوير، كما إنني لا أشعر بحماس عندما يدعوني أحدهم إلي مواجهة الكاميرا، عدم حماس ربما مبعثه أن كل شيء زائل، وإنني في مرحلة ترتيب الأوضاع والأوراق قبل السفر الذي سبقني إليه أستاذي ومعلمي. لكم مررت بفرص كان ممكناً أن أفهم خلالها سر الضوء، والتحكم فيه إلا أنني لم أتقن فن التصوير، اعتمدت علي تلك الآلة الآلية لالتقاط لحظات حميمة أو فريدة خلال رحلاتي. في عام اثنين وتسعين من القرن الماضي قال لي نجيب محفوظ إنه يرغب في زيارة الجمالية وبيت السحيمي بالتحديد، اتفقنا علي موعد في الصباح، جاء في عربة أجرة صغيرة إلي ميدان بيت القاضي الذي وُلد فيه، في ذلك الوقت كان يتحرك بمفرده، حراً بدون حراسة، وظل الأمر كذلك حتي عام أربعة وتسعين عندما وقعت محاولة الاغتيال الآثمة فتبدلت ظروفه تماماً، ولهذا حديث آخر. نزل متوكئاً علي عصا نحتها وهذبها صديقه الفنان أحمد مظهر من حديقة بيته. مشينا إلي بيت السحيمي القريب، اعتدت في صحبتي له عبر حواري وأزقة القاهرة القديمة أن أحترم صمته واستغراقه، فمجيء الإنسان إلي مكان ارتبط به وصار يمثل بالنسبة إليه حجر الزاوية في حياته، ذهاب المرء إليه يعني الرغبة في استعادة ذكريات، لحظات من الزمن المنقضي. الجمالية بالنسبة له كانت منبعاً ومصدراً لإلهامه وإبداعه، وعبر حوالي خمسة وأربعين عاماً أصبحت أعرف عاداته وما يمكن أن يقوله إذا تحاورنا، أصبح لرفقتي له آداب ألتزم بها. في الجمالية أثناء تجوالنا لم أكن أبادر بالنطق إلا إذا تحدث هو .
لماذا اصطحبت معي آلة التصوير البسيطة ذلك اليوم؟
لا أذكر، لا يمكنني استعادة الدافع، راح من ذاكرتي. عند انصرافنا، مضينا عبر الممر المؤدي إلي الباب، تبعته علي بعد خطوتين، في لحظة خاطفة صوبت آلة التصوير وضغط الزر، لماذا قمت بتصويره من الخلف؟ لا أدري، طبعت الفيلم، لقطات عديدة مع طالبات الثانوي وهن يحطن به، عند نزوله من عربة الأجرة، ظلت الصور في أحد أدراج مكتبي، لم أنشر منها أي لقطة، بعد الرحيل، رحت أفحص ما قمت بتصويره خلال حوالي ربع قرن، فجأة وجدت هذه الصورة، تلك اللقطة في يدي، كان ذلك اليوم السابق علي طبع »أخبار الأدب« هكذا ظهرت اللقطة وكأنه يودع الكون كله متجهاً الي هذا الضوء الساطع، لذلك أطلقت عليها »الخروج إلي النهار« عنوان الكتاب المقدس لمصر القديمة، وكلما سألني سائل عن أسرارها أبتسم تماماً كأن الأستاذ يبتسم إذا رغب أن يسخر من أمر ما!
منذ سنوات زارني مصور فرنسي شهير اشتركنا معاً في إصدار كتاب عن القاهرة، كتبت له مقدمة طويلة تكاد تكون كتاباً متكاملاً، تطلع بدهشة وإعجاب إلي الصورة المعلقة في مواجهتي، قال إنها فنية جداً، راح يسألني عن الفتحات التي استخدمتها وعن كيفية مواجهة الضوء، أسئلة فنية جدا رددها عليّ الصديق أيمن الصياد رئيس تحرير مجلة »وجهات نظر« عندما قرر نشرها علي غلاف المجلة رغم ظهورها علي غلاف جريدة »أخبار الأدب« بعد رحيل الأستاذ مباشرة.
أسئلة لم أعرف كيف أجيب عليها، ليس عن رغبة في الاخفاء، ولكن عن جهل بما فعلت، مازلت أذكر قول المصور الفرنسي بعد أن لاحظ ترددي:
»إنني أحترم حرصك علي أسرارك..«
أما الفنان فاروق ابراهيم رحمه الله فلن أنسي تعليقه، ان هذه الصورة من أكثر اللقطات التي أراها فنية وبراعة، إن في مكتبتي الخاصة أو في مكتبي بمنزلي ، بدار أخبار اليوم أتطلع إلي نجيب محفوظ يتجه إلي النور المنبعث من فناء بيت السحيمي، في كل لحظة ماثل أمامي من الخلف، أنظر إليه وكأني أتبعه، مازلت.
حكم الإخوان
كان ذلك قبل رحيله بحوالي عام، كنا في فرح بوت، القارب السياحي الذي أمضينا فيه لقاءاتنا خلال العشرين عاماً الأخيرة، استضافنا فيه صاحبه الدكتور ابراهيم كامل، ويشاء القدر أن تنتقل ملكية المركب إلي رجل أعمال آخر في نفس الأسبوع الذي بدأ فيه محفوظ مرض الموت. أعود إلي تلك الليلة، كنا حوله، الأبنودي، القعيد، زكي سالم، نعيم صبري، مجدي سعد المحامي، حسن ناصر، العمدة عماد العبودي، سامي التهامي، محمد شعير الذي حاء لغرض يخص »أخبار الأدب«.. جري الحديث حول الأوضاع، وتحدثنا في كل شيء، فجأة ساد صمت، كان وضعه ينبئ بأنه سيقول شيئاً، فجأة قال:
»اسمعوا.. يظهر ان المصريين عاوزين يجربوا حكم الإخوان..«
أصغينا بدهشة، تري.. ماذا يقول لو امتد به الأجل إلي اليوم ورأي ما رأينا ونراه؟..
من ديوان النثر العربي:
أحس بحزن عميق كأنما يري مصرعه فيما وراء الغيب.
»بين القصرين«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.