مثل قومي، مثل كل المصريين، إذ يضيق بهم الحال يتجهون إلي زيارة مولانا، أي سيد الشهداء، انه مرتكزي، وجوهر عمري، وسيد أحوالي، أقدم ما ينتمي إلي ذاكرتي، بصرية، أو سمعية، أو شمية، أو صور مبهمة تستعصي علي التفسير يرتبط بأبي وأمي، أبي الكادح، الذي جاء من قريتنا في الصعيد، جهينة التي ولدت بها إلي القاهرة بحثا عن الرزق بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت في الصعيد، لم تتح له فرصة اتمام تعليمه في الأزهر كما تمني واستهدف في بداية سعيه، إلا أن يتمه المبكر، فقدانه الأب وهو ابن عامين، والأم وهو ابن ستة أعوام، أدي إلي مواجهة الحياة وحيدا، فردا، طمع أقاربه في قطعة أرض تتجاوز الفدان ونصف، وتلك مساحة كبيرة بمقاييس الوقت في عشرينيات القرن الماضي، وكان تمسكه بها أحد أسباب هجاجه إلي القاهرة، إلي مصر كما يسميها أهالي الصعيد والوجه البحري، وعندما نزلها اتجه إلي سيدنا الحسين، حفيد الرسول الكريم، الذي قتل من أجل الحقيقة في كربلاء، وأصبح سيدا للشهداء عند المسلمين كافة، مبجلا عند المصريين، الذين عبدوا الإله أوزير، الذي استشهد في صراعه مع شقيقه إله الشر ست، وتناثرت أجزاء جسده إلي اثنين وأربعين موضعا، بعدد مقاطعات مصر القديمة، وسعت زوجته الوفية ايزيس تلملم أشلاءه، منه أنجبت ابنهما حورس الذي ينتسب إليه ملوك مصر القديمة، فكرة الاستشهاد من أجل الإنسانية، من أجل فكرة عادلة، مضمون روحي أساسي في مصر، لذلك تقبلت مصر المسيحية واعتنقتها ومنحتها مضمونها الروحي، هكذا نشأت الكنيسة القبطية، وعندما اعتنقت مصر الإسلام، أحب المسلمون آل البيت، خاصة سيدنا الحسين، رغم أنهم ليسوا شيعة، لا يوجد فرد من آل البيت إلا وله ضريح في مصر، سواء كان حقيقيا، يضم رفات صاحبه أو رمزيا. إلي سيدنا الحسين يتجه المصريون، وإليه اتجه أبي، فبجوار ضريحه يشعر الغريب بالأمن، ويجد الضعيف ملاذا وعونا، وقد ورثت عن أبي تعلقه بالحسين وآل البيت، فتحت عيني علي الدنيا في منزل صغير متواضع فوق سطح بيت مرتفع.. منه كنت أري مئذنة المسجد السامقة. فجر كل يوم، يستيقظ الوالد، في ليالي الشتاء قارسة البرد، أو في الصيف الحار، لا فرق من مرقدي الدافئ أصغي إلي خطواته، إلي خرير الماء اذ يبدأ الوضوء، لم يحل بينه وبين أداء الصلاة في مسجد الحسين الذي كان يقع علي مسيرة خمس دقائق طوال عمره إلا المرض الشديد، قبل الخامسة كنت أطلب صحبته، فيقول: »صل في البيت.. وعندما تكبر اصحبني إلي صلاة الفجر..«. افطارنا الشهي يعود من صلاة الفجر، حاملا افطارنا. طبق الفول الشهي من بائع شهير اسمه أبو حجر، كان يقف قرب الباب الرئيسي للمسجد، يخرج المصلون ليشتروا منه الفول، ومن »المالكي« اللبن الحليب الدسم، ومن »السني« الخبز الساخن الجميل، نستيقظ، وبعد أن نغتسل، نتحلق حول المائدة، ربما أول ما تلقيته من تعليمات »قل بسم الله الرحمن الرحيم أولا.. قبل كل شيء«. النطق باسم الله يبعد الشيطان، ويقصي الشر، ويطرح البركة في الطعام، والرزق، قبل أي اتفاق، قبل أي رحيل قصير أو طويل، قبل الشروع من الأفضل دائما ذكر اسم الله، قبل دخول الغرف المظلمة يكفي التلفظ باسم الله لنطرد العفاريت والأرواح الشريرة، يقول الوالد، أو الوالدة رحمهما الله »كل من أمامك.. ولا تحف..«. أي يجب أن نراعي من يأكل معنا.. ذلك أننا كنا نأكل من ماعون واحد، عرفت طريقي إلي ضريح ومسجد سيدنا الحسين مع الوالد مرتين في العام، الأولي في العيد الصغير الذي نفطر فيه بعد صيام شهر رمضان، والثاني العيد الأكبر، عيد الأضحي، كنت أنام مبكرا محتضنا ملابسي متطلعا إلي الصباح الباكر حيث أصحب أبي لصلاة العيد، بالتحديد في مسجد الحسين، يفيض هذا المكان بالضوء والسكينة والسجاد الأحمر الياقوتي الذي يفرش أرضه، والأخضر الخصب الذي يصبغ غطاء الضريح، ولون الرخام الأبيض المشرب بحمرة، وألوان الخطوط التي تكون الآيات القرآنية المعلقة علي الجدران، اضافة إلي زرقة السماء القاهرية.. انها الألوان الأساسية في ذاكرتي ، بمخيلتي الأولي تصورت الحسين شابا جميلا يتطلع إلي الأمام.. بشر لكن في وضع تمثال منحوت باتقان وعلي وجهه تعبير فيه حزن، وفيه أسي، وصفاء أيضا. ربما كان ذلك التصور بتأثير رسم شعبي يباع علي أرصفة المساجد حتي نهاية الستينيات من القرن الماضي صورة رسمها فنان شعبي مجهول لسيدنا علي بن أبي طالب يجلس متوسطا نجليه الحسين عن يساره والحسن عن يمينه، وصورة أخري لسيدنا ابراهيم عليه السلام ويمسك سكينا ويستعد لذبح ابنه اسماعيل امتثالا للرؤية، وأعلي الركن الأيمن الملاك سيدنا جبرائيل نازلا من السماء وبيده خروف فداء لاسماعيل أذكر صورا أخري لأبينا آدم وأمنا حواء، وصورة لسيدي أحمد البدوي وسيدي عبدالقادر الجيلاني أحد أقطاب الصوفية وصورة للبراق الذي أسري به الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام إلي السماء، حصان مجنح، له رأس إنسان جميل الصورة، أنثوي الحضور، وصورة للمحمل عند خروجه من مصر قاصدا مكة يحمل كسوة الكعبة، وهدايا مصر إلي أهل الحجاز وفقراء الحجاج استمر وجود هذه اللوحات حتي نهاية الستينيات، واختفت تماما في السبعينيات مع بدء ظهور تيارات التطرف الديني، وعندما زرت تونس في عام خمسة وثمانين وجدت هذه اللوحات تباع علي رصيف جامع الزيتونة، ولا أدري إذا كانت موجودة حتي الآن أم اختفت أيضا، عندما رأيتها تذكرت وقفة أبي أمام تلك اللوحات وشرحه لما نري. كان في أويقات فراغه وراحته يحكي لنا عن الأنبياء، طوفان نوح، وسيدنا ابراهيم وعن ابنه اسماعيل الذي أطلق اسمه علي أخي، وكنت اسأله في صغري، لماذا لم يطلق عليّ اسم أحد الأنبياء كما أطلق علي أخي، فكان يداعبني قائلا: »ألا تسمع الناس تقول.. يا جمال النبي«. والحقيقة انه كان معجبا بسيرة السيد جمال الدين الأفغاني، المفكر الإسلامي الثوري الذي جاء إلي مصر في القرن التاسع عشر ومات في الاستانة مسموما، وأطلق اسمه عليّ. كان يحفظ سورة الكهف عن ظهر قلب. ويحكيها لنا في صيغ مختلفة، وكذلك سورة سيدنا يوسف، ولقاء سيدنا موسي بعبد أوتي العلم اللدني، ويعتقد المفسرون انه سيدنا الخضر الذي شرب من عين الحياة فهو لا يموت أبدا حتي يرث الله الأرض ومن عليها. كان يحكي لنا عن مشاهد القيامة كما وردت في القرآن الكريم، وكنت اسأله عن يوم الحشر، وهل سنتفرق فيه عن بعضنا، فيقول لي: »يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه«.. سورة عبس. وأبكي حزنا لأنني لن أتعرف علي أمي وأبي واخوتي، ولأننا سنفترق كان الموت يلوح قصيا، نائيا، ولم أكن أدري انه أقرب إلينا من حبل الوريد. في يوم العيد، نرجع إلي البيت بعد اكتمال البهجة برؤية موكب الزعيم جمال عبدالناصر الذي كان يحرص علي رؤية الناس من عربة مكشوفة، وبعد افطارنا يحمل الوالد حقيبة من ورق، فيها كعك، وفواكه، وماتيسر، لتوزيعها علي أرواح الموتي أولا شقيقي خلف وكمال اللذين رحلا صغيرين قبلي، وثانيا علي أرواح من يحب، وزيارة الموتي وتوزيع الهدايا من أجلهم عادة مصرية فرعونية قديمة، وتمتزج زيارات الموتي بالمناسبات الدينية، العيدين، ونصف شعبان، والسابع والعشرين من رجب، وقد دارت الأيام دورتها، وصرت أسعي إلي مرقد الوالدين رحمهما الله تماما كما كان يفعل والدي. أما ضريح الحسين ومرقده، فهو المكان الوحيد في العالم الذي يصالحني علي نفسي حتي الآن، إليه أسعي عند الضيق. كان الوالد يحفظ آيات كريمة من القرآن الكريم، يتلوها بمفردها، واستعيدها الآن فتبدو لي كمواد قانون كوني ينظم حياته، أحيانا ينطقها أثناء صمته، وأحيانا يتلوها ليدلل بها علي صحة موقف أو قول، كانت تعاليم الدين جزءا من الحياة، ومن السلوك الإنساني، ليست بمعزل. »أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا..« سور المائدة. »ولا تقتلوا النفس التي حرم الله.. « سورة الأنعام. كفاح كريم لقد مر والدي بظروف عسرة جدا في حياته، خاصة في كفاحه البطولي من أجل تعليمنا، من أجل أن يجنبنا الصعاب التي رآها في حياته، وكثيرا ما ردد علي مسمعي.. »والله لولا خوفي من الموت كافرا لانتحرت..«. ان يقتل المسلم نفسه، أو يقتل إنسانا آخر، فهذا كفر بعينه، حرم الله في القرآن الكريم تحريما صريحا قتل النفس بدون ذنب. كما حرم وأد البنات الذي كان منتشرا في الجاهلية قبل الإسلام. كان الوالد يذكر الله كثيرا، بعد تناولنا الطعام لابد أن نقول »الحمد لله«. إذا سافر أحدنا يقول له »ربنا معاك«، إذا خرج لقضاء حاجة يطلب من أمي أن تدعو له فتقول »ربنا يسهل لك..«، أحيانا أثناء صمته يصيح »يارب سترك ورضاك..«. أو »يا غفور ياكريم يارب..«. عندما بلغت السابعة بدأ يتابع أدائي للصلاة، ويؤمنا ليصلي بنا جماعة، أمي وشقيقي اسماعيل وشقيقي علي وشقيقتي نوال، وعندما بلغت التاسعة بدأت أصوم رمضان، وكان ذلك علامة علي خطوي نحو طور الرجال، كنت أغالب العطش والجوع، ويكتمل شملنا حول الطعام بعد أذان المغرب، حتي بعد تقدمي في العمر، ومروري بظروف أمرني فيها الطبيب أن أفطر في رمضان بسبب أدوية سيولة الدم، لا يمكنني أبدا تناول الطعام وقت الغذاء، انتظر أذان المغرب، وخلال النهار أتناول الدواء وبعض ماء وعندي احساس بالذنب لم يكن ضريح ومسجد مولانا الحسين مكانا للصلاة فقط، إنما كان ملاذا أيضا وملتقي فيه يتساوي الناس، فالثري إلي جوار الفقير، الناس سواسية كأسنان المشط طبقا لما يأمر به الإسلام، ولكم قضي والدي من حاجات عبر جيرانه في الصلاة الذين كان بعضهم في مناصب مرموقة بالحكومة، أو أطباء مشهورين، كلهم يجيئون إلي الحسين، التماسا للبركة، وتعلقا بالرمز، وهذا ما يميز الإسلام في مصر. فثمة أقطار إسلامية تسود فيها مذاهب تحرم التعلق بالأضرحة، أو زيارة الراحلين. مشاهير القراء في مسجد الحسين، كانت تتردد أصوات مشاهير القراء، ولقد استمعت إلي أجمل الأصوات، التي تجسد مدرسة تلاوة القرآن المصرية، قارئ واحد شهير لم استمع إليه لأنه رحل عن دنيانا وعمري خمس سنوات، انه الشيخ محمد رفعت الذي تبث الإذاعة تسجيلاته النادرة. كان الوالد يستيقظ مبكرا في بعض أيام الجمع، ليستطيع حجز مكان في مسجد فاضل باشا بالجماميز الذي كان يقرأ فيه الشيخ محمد رفعت، وكان والدي اذ يصغي إلي تسجيلاته كان يقول لي ان ما نسمعه مجرد شبه بعيد جدا بصوت الشيخ صاحب الصوت العميق، العذب. للأسف بدأت مدرسة التلاوة المصرية تختفي من الإذاعة والتليفزيون، لكن ثمة قراء مازالوا يتلون القرآن الكريم في الريف المصري طبقا لتقاليد المدرسة المصرية في التلاوة، كان والدي رحمه الله يحرص علي مجاملة جيراننا الأقباط، في القرية أو الجمالية، وأذكر زياراته المنتظمة لتاجر غلال من بلدنا اسمه »فخري غورس« ومن زيارته تلك عرفت أعياد الأقباط، مثل عيد القيامة، وسبت النور، وعيد الغطاس. وفي أثناء قضاء اجازاتنا بالقرية كان يصافح القس والرهبان الأقباط بمودة واحترام، ويعلمني أن أنادي كلا منهم »يا أبونا« كان يردد دائما: »الدين لله والوطن للجميع..«. ولعلها عبارة تمت إلي سياسي مصري، قبطي شهير اسمه مكرم عبيد، كان من رجال ثورة 9191 التي شبت ضد الاحتلال الإنجليزي. للأسف.. لم تختل العلاقة بين المسلمين والأقباط إلا مع صعود موجات التطرف منذ السبعينيات في القرن الماضي، اختلت بتأثير ظروف اجتماعية واقتصادية نفثت عن أوارها من خلال تلك الفتن، ولكن مصر بمضمونها الروحي القديم يمكنها تجاوز شتي المحن. أحيانا أغيب عن زيارة مولانا الحسين بسبب سفر أو انقطاع قسري، عندئذ أسعي إلي ضريحه، تماما كما كان يسعي أبي، بنفس ايقاع خطواته، ونفس اتجاه نظراته، أجلس في فراغ المسجد، مسترجعا حضور أبي الذي غاب، مستأنسا بذكراه، وبالمعاني التي يجسدها مولانا الشهيد، نفس معني التضحية والشهادة الذي كان يجسده »أوزير« بالنسبة للمصري القديم، مسترجعا بالذاكرة أبياتا شعرية لمولانا الصوفي الأكبر محيي الدين ابن عربي أثق ان والدي رحمه الله لو كان اطلع عليها لحفظها ورددها: »لقد صار قلبي قابلا لكل صورة فمرعي لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة، ومصحف قرآن«