بوصولنا إلي مرقدها الشريف الذي يطل علي ميدان فسيح عتيق يحمل اسمها نكون قد بدأنا الرحلة إلي المسار الذي يقودنا إلي المراقد المقدسة لآل البيت في مصر، يطلق اسمها علي المنطقة مكانياً وإدارياً، حتي ان قسم الشرطة القريب من المسجد يُسمي بقسم السيدة زينب، وإذا كان المصريون يفهمون علي الفور المقصود بسيدنا، أي مولانا الحسين، فإنهم يدركون أيضاً المقصود بالسيدة، سواء كانوا قاهريين أو من المحافظات القريبة أو البعيدة، في الشمال أو الجنوب، عندما يقول أحدهم إنه قاصد إلي السيدة، أو إنه يستجير بالسيدة، أو إنه يستعين ويتوسل بالسيدة لقضاء حاجة، فإن المقصود سيدة واحدة لا غير، إنها السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما. إنها إذن غنية عن التعريف، فأبوها علي بن أبي طالب، وجدها لأمها محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمها فاطمة البتول، وجدتها لأمها خديجة بنت خويلد أولي أمهات المؤمنين، شقيقاها الحسن والحسين، وُلدت في السنة السادسة للهجرة، في بيت النبوة بالمدينةالمنورة، اختار لها جدها رسول الله اسم زينب، إحياء لذكري ابنته زينب التي توفيت في السنة الثانية للهجرة متأثرة بجراحها، فقد لقيها أحد المشركين بعد غزوة بدر، في طريقها إلي المدينة فنخسها في بطنها، وكانت حاملاً فأسقط حملها وماتت، أورث هذا رسول الله حزناً وأسي إلي أن ولدت أختها فاطمة الزهراء ابنتها الأولي فأسماها زينب، أحاطها برعايته وحنوه، لكنه لبي نداء ربه وهي في الخامسة ماتزال، دفن جدها رسول الله في غرفة عائشة رضي الله عنها بعد أن أتم الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة. أيام حزينة تلك التي عرفتها الطفلة زينب بعد رحيل جدها، فلا يذكر التاريخ ولا الثقاة أن والدتها فاطمة قد ضحكت أو تبسمت بعد أن لبي والدها نداء ربه الذي بعثه رحمة للعالمين، وتذكرها مصادر التاريخ باعتبارها من البكائين الستة في التاريخ. بكي آدم ندماً، وبكي نوح قومه، وبكي يعقوب ابنه يوسف، وبكي يحيي خوف النار وبكت فاطمة أباها، ثم أدركتها رحمة الله فلحقت بوالدها بعد أسابيع قليلة، قيل ستة شهور، وقيل ثلاثة، وقيل أقل من ذلك. هكذا عرفت الطفلة البريئة ضراوة الأحزان منذ طفولتها المبكرة، وهكذا وجدت نفسها وهي الطفلة الصغيرة في مقام الأم بالنسبة لأشقائها، الحسن والحسين وأم كلثوم تجمع الروايات المتناقلة علي أن أمها أوصتها وهي علي فراش الموت أن تصحب أخويها وترعاهما، أن تكون لهما أماً، ولكن ما ينتظرها في مستقبل أيامها كان أفظع بكثير من تلك الأحزان التي شبت بعد فقدها جدها وأمها وهي ماتزال طفلة. حتي محنة كربلاء لم يكن يعرف أوصافها إلا المقربون جداً، ولكن عندما حلت الكارثة الكبري، والمصيبة العظمي، خرجت السيدة زينب إلي الناس سافرة، فرأي القوم جمالاً رائعاً، مهيباً لا مثيل له. فروع الدوحة الطاهرة في السعي إلي مراقد آل البيت في القاهرة، نمر بشوارع تفيض بالحياة، ويتدفق عبرها البشر فكأنهم يستأنسون بهم، ويطوفون باستمرار حول مراقدهم الشريفة، الطاهرة. السيدة عائشة، اسم إذا سمعه الإنسان تتداعي إلي ذهنه معان عديدة، فهي من بيت النبوة، وأيضاً اسم لمسجد شهير، واسم لمنطقة كاملة تماماً مثل سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة. يطالعنا مسجدها المطل علي الطريق السريع، الذي يواجهه جسر للسيارات، وتطاول مئذنة المسجد، مآذن أخري قريبة مثل، السلطان حسن والرفاعي، وابن طولون، وشيخون، ومآذن مسجد محمد علي التي تقوم فوق القلعة وتشكل خلفية للقاهرة القديمة والحديثة. علي الطرف الآخر من الطريق تقوم قباب الخلفاء العباسيين، وأضرحة الأمراء المماليك، لذلك فإن الساعي إلي مراقد آل البيت في هذا المسار لا يري فقط أضرحتهم الطاهرة، إنما سيمر بأغني منطقة في مصر مزدحمة وثرية بالآثار الإسلامية من مختلف العصور، أينما اتجه البصر لابد أن يقع علي قبة منقوشة، أو مئذنة رشيقة التكوين، أو آيات بينات محفورة بخط جميل علي الجدران. نتوقف أمام مسجد السيدة عائشة، نتأهب للدخول إلي فضائه الجميل، المهدئ للنفس، الباعث علي الطمأنينة والأمن الروحي، تلك سمات تميز جميع مراقد آل البيت في مصر، ولذلك ستلحظ العين وجود كثيرين جاءوا من شتي الأماكن، من الريف، من الحضر، يسعون للزيارة وطلب البركة والشكوي من الكروب. السيدة عائشة. بنت جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين، ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي أخت الإمام موسي الكاظم رضي الله عنه. توفيت عام خمسة وأربعين ومائة. يؤكد المؤرخون من مختلف العصور وجود جثمانها الطاهر في ثري مصر، نقرأ ما كتبه ابن الزيات في كتابه عن الاعلام المدفونين بالقرافة »الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة« »وأصح ما بالحومة مشهد السيدة عائشة لها نسب متصل بالإمام الحسين بن علي بن أبي طالب« وتبعه السخاوي في كتابه »تحفة الأحباب«: »هذا قبر السيدة عائشة من أولاد جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه« ذكر ذلك أيضاً الإمام الشعراني في طبقاته، والإمام المناوي، ولخص علي باشا مبارك في خططه أقوال المؤرخين: »أخبرني سيدي علي الخوّاص رضي الله عنه أن السيدة عائشة رضي الله عنها ابنة جعفر الصادق في المسجد الذي له المنارة القصيرة علي يسار من يريد الخروج من الرميلة إلي باب القرافة، وهي السيدة عائشة بنت جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين، قال المناوي: ماتت سنة خمس وأربعين ومائة..« يصف علي باشا مبارك مئذنة المسجد بأنها قصيرة، ولكنها الآن سامقة، شاهقة، المسجد الذي يصفه علي باشا مبارك شيده الأمير عبدالرحمن كتخدا سنة ستة وسبعين ومائة وألف هجرية، أثنان وستون وسبعمائة وألف ميلادية، أي بعد ألف سنة من وفاتها تقريباً. ويعد الأمير عبدالرحمن كتخدا من أعظم البنائين الذين عرفتهم مصر في العصر العثماني، وكان صاحب ذوق رفيع في تنفيذ المنشآت المعمارية الجميلة، وكان له اهتمام خاص بمراقد آل البيت، جدد المسجد الحسيني، والمشهد الزينبي، والسيدة سكينة، والسيدة نفيسة، ومشهد السيدة عائشة. المشهد الذي بناه الأمير عبدالرحمن كتخدا، كان صغيراً بالقياس إلي ما نراه الآن، وعندما كتب المرحوم حسن عبدالوهاب عالم الآثار المصرية الكبير مؤلفه القيم عن مساجد مصر، وصف مسجد السيدة عائشة: »ولهذا المسجد وجهة غربية اشتملت علي بابين تقوم بينهما المنارة، والباقي منها دورتها الأولي، وقد كُتب علي عتب الباب البحري ما نصه: مسجد أسه التقي فتراه كبدور تهدي بها الأبرار وعباد الرحمن قد أرّخوه تتلالا بحيه الأنوار ومن هذا الباب يتوصل إلي داخل المسجد، وقد عمّر سنة أربعة عشر وثلاثمائة وألف هجرية، ستة وتسعين وثمانمائة وألف ميلادية، أما الباب الثاني فتوجد علي يساره المنارة ومكتوب عليه: بمقام عائشة المقاصد أرّخت سل بنت جعفر الوجيه الصادق وهذا الباب يؤدي إلي طرقة علي يسارها باب له عقد تحيط به كرانيش متعرّجة يؤدي إلي المسجد وبصدرها باب القبة مكتوب عليه: لعائشة نور مضيء وبهجة وقبتها فيه الدعاء يجاب يصفها العلامة حسن عبدالوهاب بأنها من القباب البسيطة، فرشت أرضيتها بالرخام الملون وتتوسطها مقصورة خشبية حول القبر الشريف، لكن المسجد منذ السبعينيات أصبح أكثر اتساعاً، وأجمل، فقد تم تفكيك ونقل مسجد أولاد عنان الذي كان يطل علي ميدان باب الحديد حيث محطة القطار الرئيسية، وأعيد تركيب جدرانه ورخامه، وزخارفه، هذا هو المسجد الجميل الرقيق الذي نراه الآن. وبالنسبة لي فإن مرقد السيدة عائشة يعني لي لحظات خاصة جداً، فعندما فاضت روح أمي إلي بارئها رحمها الله عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف، صلينا عليها أمام ضريح السيدة عائشة ومرقدها الطاهر، كانت رحمها الله محبة لآل البيت، منتظمة في زيارتهم والتبرك بهم، خاصة السيدة زينب، والسيدة نفيسة والسيدة سكينة وطبعاً سيدنا الحسين من قبل ومن بعد، لذلك أحتفظ لمرقد السيدة عائشة بمشاعر خاصة وأحرص علي زيارته. نخرج من مسجد السيدة عائشة لنمضي سيراً علي الأقدام إلي شارع الأشرف مرة أخري لنتوقف أمام مرقد السيدة رقية. إنها السيدة رقية بنت الرسول صلي الله عليه وسلم من زوجته خديجة، تصغر أختها السيدة زينب بثلاث سنين، تزوجت بعثمان بن عفان، هاجر بها إلي الحبشة، ولدت له ابنهما عبدالله وبه يكني، عاش الطفل ستة أعوام، ثم نقر ديك عينه فتورمت ومات في جمادي الأولي سنة أربع هجرية، لما عادا من الحبشة إلي مكة ثم هاجر إلي المدينة، وتوفيت السيدة رقية بعد مرضها بالحصبة ودفنت بالمدينة. إذن.. كيف جاءت إلي مصر؟ كيف أقيم لها مرقد؟ عرفت مصر وعرف العالم الإسلامي ما يُعرف باسم مشاهد الرؤيا، ويقام عادة عندما يري أحد الصالحين رؤيا يأمره فيها أحد الراحلين الكرام بإقامة ضريح له في مكان معين فيقوم، وقد تلاقي ذلك في مصر مع معتقد قديم بمقتضاه كان يتم بناء قبر رمزي في مكان غير المكان المدفون فيه الجثمان، لذلك كان بعض ملوك مصر القديمة يدفنون في سقارة ويقام لهم أضرحة رمزية في أبيدوس. ليس أدل علي تعلق المصريين بآل البيت من مشهد السيدة رقية المدفونة في المدينةالمنورة. ولكن المصريين أقاموا لها هذا المرقد المهيب، وتبدو القبة المقامة فوق الضريح مهيبة، جليلة، شاهقة، أما المحراب فلا مثيل له في مساجد مصر، ويعتبر تحفة فنية رائعة يقصدها المهتمون بالفن الإسلامي من العالم كله، ولا يخلو كتاب يتناول الفن الإسلامي من صورة له، تبلغ سعته ثلاثة أمتار وعمقه متر وعشرون سنتيمتراً، وارتفاعه ستة أمتار، تعلوه طاقية علي شكل محارة مفصصة يتوسطها جامة تحتوي علي اسم »علي« يحيط به اسم »محمد« سبع مرات، ويحيط بعقد المحراب صفان من الفصوص، الداخلي يحتوي علي اثني عشر صفاً والخارجي أكبر ويحتوي علي تسعة فصوص، ويحيط تجويف المحراب مستطيل زخرف خواصر عقد المحراب برسوم نباتية يتوسطها رسم دائرة، يعلو المستطيل شريط به كتابة كوفية، وتذكر الدكتورة سعاد ماهر نقلاً عن العلامة الانجليزي كريزويل أن المشهد شيد عام سبعة وعشرين وخمسمائة هجرية، اكتشف كريزويل كتابة قرآنية أيضاً إلي جوار التاريخ، حروف جميلة زرقاء علي أرضية بيضاء بالقبة، وتعتبر أقدم كتابة عربية بمصر نراها حتي الآن.