جاء رمضان ليجدنا في حال غير الحال، لا ثورة يناير وفرت العيش، أو جاءت للناس بالحرية، أو حققت لهم العدالة والكرامة الانسانية، جاء رمضان ليجد الناس متشرذمة، متناحرة، متناطحة، متصارعة في المنصة والتحرير، جاء يبحث عن البهجة التي كان يستقبله بها الناس فوجد الوجوم علي الوجوه، والغضب المكتوم من مارثون لهيب الاسعار، وجد المظالم " ملطوعة " علي ابواب القصور، وجد حصار المحاكم وارهاب القضاة، وجد الضرب المبرح لكل معارض، وجد مناخا مؤسفا وحزينا لا يتفق مع عرف أو دين! في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بشارع الاميرة عفت بشبرا المظلات، تفتحت حواسي علي جو نقي كنا نعيشه في شهر رمضان الكريم، كانت احبال الزينة المصنوعة من قصاصات الورق الملون تربط بين شرفات المنازل، لم نكن نسمع عن تمييز بغيض يفرق بين طفل مسلم وآخرمسيحي، كنا جميعا ننطلق بعد الافطار بالفانوس ابو شمعة، نطوف علي المحلات والمقاهي نغني لرمضان بما كانت تلتقطه اذاننا من راديو عم عجايبي، او راديو محل بقالة عم لبيب، وهما من أسرة مسيحية عريقة في الشارع، عم لبيب كان يستقبل شهر رمضان بصوان متسع حول الدكان تزينه صناديق الزبيب والمشمشية واللوز والفستق وعين الجمل والسوداني واجولة الخروب والعرقسوس، واكياس جوز الهند المبشور، واجولة التمور، ومن سقفية الصوان تتدلي احبال التين المجفف، وكافة انواع واحجام الفوانيس، كنا بقرش تعريفة، بعشرة مليمات فقط لا غير، ينفحنا عم لبيب قرطاس ورقي متوسط يحوي ما لذ وطاب من مكسرات رمضان ! قد لا يصدق شباب وشابات اليوم ما اقول، قد يظن بعضهم اني ابالغ، ربما لانهم لا يدركون ان القرش بتاع زمان كانت تملأه البركة، قرش عزيز له قامة وقيمة واحترام، عن نفسي عندما استرجع هذه الايام اتعجب من تلك البركة التي عشناها في هذا الزمن المعبأ بالطيبة والنقاء والقناعة والتسامح والتآخي والتألف والتدين الفطري الحقيقي المنعكس في السلوك، لم يكن هناك جشع أوطمع لدي التجار، سواء كانوا من الكبار او الصغار، بتعريفه، اي نصف قرش، اي خمسة مليمات، تحصل علي قرطاس كبير من حب العزيز يكفي ثلاثة اشخاص ! اتذكر هذا كلما مررت اليوم امام المحلات التي تعرض التمور والياميش ولفافات قمر الدين، ترعبني الاسعار الجنونية التي تتحدي قدرة الناس علي الشراء ، من المجنون المعتوه الذي يقبل علي شراء كيلو بلح بخمسة وثلاثين جنيها، وهناك انواع تفوق هذا السعر اتية لنا من السعودية والامارات، وللضحك علي الذقون يكتب عليها انها تمور حيوية، بصراحة اطالب الصين بأن تفكر في غزو الاسواق بتمورها علي اعتبار ان هذا هو الشيء الوحيد الذي لم نره كمنتج صيني بالاسواق، الاسعار المطروحة لياميش ومكسرات رمضان، اسعار غير حقيقية لقيمتها السوقية والاستيرادية، اغلبها بضاعة مخزونة من الاعوام السابقة، وراء تلك الاسعار استغلال يتعارض مع روحانيات الشهر الكريم، ياميش رمضان مقدور عليه بالمقاطعة، لكن غير المقدور عليه القفزات الجنونية التي لحقت بكل السلع والمنتجات الغذائية قبل حلول الشهر الكريم بثلاثة ايام، لا رحمة لدي التجار الذين لاهم لهم إلا تحقيق الثراء، بغض النظر عن ضرورات التكافل والتعاطف والتآخي التي تفرض علي الجميع استثمار الشهر الكريم في غسل ما لحق بنا من ذنوب . من عم لبيب اشتريت في منتصف الخمسينيات قرطاس المكسرات بقرش، بعشر مليمات فقط لاغير، بالأمس اشتريت ربع هذا القرطاس من الفسدق بعشرة جنيهات، اي بألف قرش ، أي بعشرة آلاف مليم، وكل رمضان وانتم بخير .