فقدت صديقة عزيزة.. وأختا قريبة إلي عقلي وقلبي.. وفقد القراء كاتبة كبيرة.. وملجأ اتسع لمشاكلهم ومآسيهم. عزيزتي حُسن شاه لم أكن أتوقع أن أرثيك أنا.. بل ترثيني أنت.. وأذكر حين قلت لك مرة مداعبة »ماذا ستكتبين عني يا حُسن حينما أنتقل إلي الرفيق الأعلي؟ قلتها علي طريقة شويكار في مسرحية »أنا وهو وهي«، فردت بنفس المداعبة: »وايه اللي عرفك بقي إنك حتموتي قبلي؟« وضحكنا وصدق حسُّها.. لكن لماذا قلت لها هذا؟ فقد خضت ثلاث عمليات جراحية قربتني من الله.. عملية القلب المفتوح التي أجراها لي القدير د. مجدي يعقوب.. ثم عملية استئصال الثدي بعد أن أصبت بالسرطان.. ثم أخيرا عملية كسر في مفصل الحوض إثر وقوعي علي الأرض خرجت منه بإصابة في رجلي بسبب خطأ الجراح. وخاضت حُسن تجربتي الثانية.. وسألتني عن الجراح الذي أجري لي الجراحة.. والذي أجري لها نفس العملية.. وخضنا المعركة معا مع المرض وانتصرنا عليه رغم جلسات الكيموثيرابي العنيفة وإجراءات الفحوصات الدائمة.. ومارسنا عملنا الذي أحببناه وأفنينا فيه عمرنا. هكذا كان جيلنا.. جيل أحب الصحافة.. لم نكن نهتم بما نأخذه من ماديات قليلة في مقابل تقديم أعمالنا التي حققنا فيها نجاحات كثيرة.. بفضل أساتذتنا مصطفي وعلي أمين.. فنحن أبناء مدرستهما وتعلمنا الصحافة علي أيديهما. عرفت حُسن شاه في البداية كقارئة من خلال عملها بمجلة »الجيل«.. وكنت في بداية حياتي المهنية.. وكان يرأس تحريرها »موسي صبري« رحمه الله، كان العمل في ذلك الوقت لا يتناسب مع المرأة في نظر مجتمع أعطي حقوقا كاملة للرجل ولم يعط نفس الحقوق للمرأة.. وأذكر انها أجرت ريبورتاجا مصورا قامت فيه بدور كمسارية لتري رد فعل الجمهور عليها.. فلماذا لا تعمل المرأة في مهنة يمتهنها الرجل؟ وحين أُممت الصحافة وتولي الشيوعيون المراكز القيادية في دار أخبار اليوم أغلقوا مجلة الجيل.. التي تعتبر من أقدم المجلات الشبابية كما أغلقوا مجلة »هي«.. وكان هذا حال الشيوعيون إذا حلوا في أي مكان.. كنت وقتها أعمل رئيسة للقسم الفني بآخر ساعة.. وتعرضنا لغزو محرري الجيل الذين انضموا لأسرتنا. وفي تلك الفترة عرفت حُسن شاه الكاتبة الكبيرة التي ظلت طوال حياتها مشغولة بقضايا المرأة. قدمت في السينما أهم فيلم عام 5791 وهو فيلم »أريد حلا« المأخوذ عن قصة واقعية لزميلة لنا ظلت تعيش بين المحاكم أكثر من 51 عاما للحصول علي الطلاق ولم تحصل عليه. كان للفيلم رد فعل كبير وسببا في تعديل قوانين الأحوال الشخصية.. مثل إلغاء بيت الطاعة الذي كان يجبر المرأة علي عودتها إليه.. ومطاردة الشرطة لها كالمجرمين. واسهمت حُسن شاه بكتاباتها في تغيير صورة المرأة التي عانت من سيطرة وعنف الرجل وتعسف القانون.. وذلك من خلال بابها الناجح الذي أعطته نفس اسم الفيلم »أريد حلا«.. وأعجبت بكتاباتها من خلال هذا الباب.. فهي تحس بالناس وتتمتع بذكاء حاد.. ولأنها دارسة للقانون والشريعة الإسلامية فقد كانت تكتب بثقة وجرأة شديدتين تنتقد القانون الذي يبيح للرجل ما لا يبيحه للمرأة.. ووجد هذا الباب استحسانا من القراء الذين ينتظرونه يوم الجمعة.. لم تكن العزيزة تكتب بقلمها بل بقلبها وعقلها معا.. كانت تعيش مآسي الناس الحقيقية وأحيانا حينما كنت أتصل بها أجدها مكتئبة.. وكانت تجد عناءً في الكتابة فكانت تكتب ببطء كما قالت لي لأنها تحس بالناس وتحاول أن تجد لهم حلولا وتتصل أحيانا بالمسئولين.. وكانت »أخبار اليوم« تتلقي المساعدات المادية الكثيرة علي بعض المشكلات.. وفي رأيي ان أحسن ما كتبته مقالاتها وأفلامها عن المرأة. عرفت حُسن شاه عن قرب حين بدأت تحضر مهرجان برلين السينمائي الدولي علي مدي عشرين عاما.. وكنت قد سبقتها إليه منذ سنوات.. كنا نجلس في غرفتين متجاورتين بالفندق الذي نقيم فيه.. ولأن طباعنا مختلفة فكنا نختلف أحيانا ونغضب.. لكن سرعان ما تعود الحياة إلي مجاريها في نفس اليوم.. نضحك وننسي ما حدث.. وعرف كل منا طباع الآخر. كان مهرجان برلين قبل انضمام ألمانياالشرقيةوالغربية يقام في ألمانياالغربية ومشتت في أكثر من مكان.. في عز الشتاء حيث درجة الحرارة تحت الصفر بكثير.. كنا ملتزمتين جدا في حضور فعاليات المهرجان.. بين الفنادق ودور العرض ولم يفوتنا فيلم أو ندوة سينمائية لنجم كبير فكنا نجري ونلهث من هنا لهناك.. وفي الآخر تجلس كل منا في غرفتها لتكتب رسالاتها لإرسالها إلي صحفنا.. كانت الوسائل قديمة متعبة.. كنا نرسلها بالبريد عن طريق ال D.H.L بعد أن نحصل علي الصور لكن الإنترنت حل هذه المشكلات في هذا العصر.. عاصرت أنا وحُسن شاه أحداثا مهمة في تاريخ العالم.. وتاريخ برلين.. وهو سقوط النظام الشيوعي وهدم السور الذي كان يفصل برلينالشرقية عن برلينالغربية لنذهب إلي مكان الحدث ونشاهده أعجب مشهد حين وقف الناس في برلينالشرقية في طوابير طويلة للخروج من السجن الكبير الذي سجنوا فيه سنوات ما بعد الحرب العالمية.. ليتنفسوا نسيم الحرية إلي برلينالغربية.. وأمسكنا أنا وحُسن شاه بالمعاول للمشاركة في تكسير »السور« أو بوابة السجن الكبير.. كان أي شخص يحاول الهروب بتسلق هذا السور يلقي مصرعه في الحال برصاص الجنود من الحرس. ولأول مرة نجد الابتسامة علي وجوه هؤلاء الجنود الذين شاهدنا من قبل وجوههم الجامدة.. وتعسفهم الشديد عندما كنا ندخل من قبل برلينالشرقية. ما أحلي الحرية التي لا يحسها إلا من ذاق مرارة السجن.. واقعة أخري عشناها أنا وحُسن في برلين وذلك عندما شاهدنا في التليفزيون الألماني إضراب جنود الأمن المركزي المصري الذي أحدث صدمة لنا.. كان منظراً مثيراً للغاية.. المظاهرات وحرق بعض الفنادق والملاهي وحاولنا الاتصال بأولادنا وذوينا للاطمئنان عليهم تُري أين كانوا.. وهل أصيبوا أو حدث لهم سوء.. لكن وسائل الاتصال بين برلين والقاهرة انقطعت.. كانت حُسن دائما قلقة علي أولادها محمد ورشا.. كانت تقول »ولادي لسه صغيرين«، وتوقفت أيضا حركة الطيران.. وحُبسنا في برلين.. وبكينا معا حتي عاد الإرسال واطمأننا علي أسرنا. ضربنا أنا وهي المثل الأعلي في الوحدة الوطنية.. كنا حينما نركب الطائرة معا ونحس أننا بين يدي الله.. تقرأ هي آيات من القرآن الكريم.. وأقرأ أنا »الأجبية« وبعض المزامير التي تحس فيها أنك تخاطب الله. كان آخر لقاء لي معها حين زرتها أنا وزوجي في مستشفي الشرطة.. كانت تعاني من آلام حادة.. وكانت ترافقها ابنتها الجميلة الإعلامية رشا ماضي.. التي كانت دائما قلقة عليها.. فقد كانت حُسن في أواخر حياتها تتحدث كثيرا عن الموت.. »أنا قلقانة يا ايريس علي رشا.. سأموت وأتركها وحدها في هذا العالم القاسي الذي لا يرحم« كانت كلماتها تحز في نفسي.. أما أوجاعها وأنينها فقد اخترق قلبي كسكين.. وحاول زوجي أن يلاطفها.. ولكن المرض كان قد تمكن منها.. وقبَّلت جبينها ويدها في آخر الزيارة وأحسست أن هذا هو اللقاء الأخير.. وخرجت وأنا أحاول أن أمنع دموعي وقلت لزوجي لن أري حُسن بعد ذلك.. حتي جاءني صوت رشا من خلال التليفون »ماما ماتت يا طنط ايريس« وبالرغم من توقعي إلا أنني صُدمت.. فقد فقدت واحدة من أعز الناس.. فقدت حُسن شاه.. يارب ألهمنا الصبر.