عزت القمحاوى أكتب بعد ثلاث خطب للرئيس محمد مرسي، خطبة الميدان، خطبة المحكمة الدستورية، وخطبة جامعة القاهرة. الخطب الثلاث في أربعة وعشرين ساعة ولم تعكس تباينًا في المضمون بين خطبة وأخري بما يتناسب مع ترتيبها واختلاف أماكنها وتباين جمهورها. بالتأكيد، لا يمكن إغفال وجود الكاميرات التي تبث مباشرة إلي الجالسين في البيوت بما يجعل الخطب الثلاث لكل المصريين من جهة، ولكن من جهة أخري فإن الخطبة الأولي لجمهور الثورة في الميدان والثانية أمام إحدي مؤسسات الدولة لحظة القسم، والثالثة أمام جمهور من النخبة، وإن لم تخل القاعة من أمهات الشهداء الذين أولتهم الخطب الثلاث اهتمامًا يستحقونه ويجب أن يكتمل بالقصاص العملي. لم تختلف الخطب الثلاث في المضمون إلا القليل الذي يتعلق بطبيعة المكان؛ فالخطبة الأولي توقف فيها عن طرح نوايا الرئيس ليهتف هتاف الثائرين ويستنهض الحاضرين للتكرار وراءه. ولأنه بين الثوار، أكد في الميدان علي تعهده بألا يكون شخص أو تكون مؤسسة فوق إرادة صناع الثورة، في إشارة تحد، بينما شكر الجيش والشرطة وإن جاء الشكر في المكان الرسمي أكثر حرارة. حار بأكثر مما يحتمل الخلاف الموجود والذي نضحك علي أنفسنا إن تعامينا عنه، وحار بالنسبة إلي تلميحة خطاب التحرير. ولم تخل الخطبة الواحدة من تناقضات في المضمون مثل التعارض بين عدم تصدير الثورة ووجوب وقف إبادة الشعب السوري. وهذه الإشارة بالذات تبين أن الرئيس لا يمكن أن يتخلص من مرجعيته الإخوانية المتهمة بتصدير الثورة، بينما دور مصر الرسمي لا يصح أن يكون علي الحياد، وإلا ما مبرر أن تكون قيادة إقليمية؟.. بخلاف ذلك لم يتقدم المضمون في الخطبتين التاليتين. كان من الطبيعي أن تأتي الخطبة الأولي لإعلان النوايا وحققت التفافًا حول الرئيس يحتاجه وتحتاجه الثورة إن نجح حقًا في تمثيلها. ولكن الاستمرار في خطب النوايا الحسنة يهدد اللغة في مقتل، ومن جملة الأشياء التي يجب إحياؤها بعد الثورة اللغة التي أماتها مبارك من طول الاستخدام الخاطيء للكلمات. الكلمات الإنشائية العاطفية مثل "أهلي وعشيرتي" لا تسبب موت اللغة فحسب، بل تهدد التعاطف الذي حصده الرئيس في الخطبة الأولي. وكان من الضروري التقدم في الخطب التالية إلي برامج العمل التفصيلية التي ترضي المواطنين من أهل الفن المنسيين إلي سائقي التوك توك المذكورين، كل مواطن في مصر يريد أن يعرف كيف ستترجم نوايا الرئيس الحسنة إلي أفعال، ليس فقط لاختبار نواياه ورؤية برامجه العملية وإنما لمعرفة حجم الحرية التي سيتمتع بها في ظل بقاء النزاع مع المجلس العسكري علي الإعلان الدستوري المكمل وفي ظل تعلق جماعة الإخوان به، حيث لا يكف رجالها عن التصريح باسم الرئاسة وهي جماعة بلا صفة في هذا الشأن. الذهاب إلي التحرير بعد إعلان النتائج هو بحد ذاته خطوة ممتازة، ليس كدليل علي استمرار الرئيس في الثورة، فهذا لا يسعد أحدًا لأن استمراره في الميدان يعني العودة إلي مرحلة أن يكون صاحب مطالب، بينما نريده الآن صاحب قرار. لكن امتياز الخطوة ينبع من كونه صار رئيسًا لا يخاف الحشد، لأن الخوف من الحشد دليل عدم صحة سياسية، ودليل انفصال بين السلطة والشعب.. ولكن الخطبة من حيث اللغة شابها الكثير من الفضفضة، خصوصًا في التفصيل الذي لا داعي له بذكر المهن والمناطق والفئات والطوائف. التفصيل بعد الإجمال أسلوب بلاغي يقوي المعني ويثبته في عقل السامع، مثله مثل التكرار الذي لجأ إليه الرئيس كثيرًا ولكن الأسلوبين البلاغيين لا يصلحان في كل الحالات؛ فالتكرار يجب ألا يكون إلا في حالتين: أن تكون الجملة ذروة في البلاغة وظهر للمتكلم استحسان الجمهور لها، والثانية أن تكون الجملة قد تشوشت بالتصفيق أو بصيحات الرفض، أما أن تعاد الجملة العادية فهذا ينقل انطباعًا سلبيًا لدي المستمع ويجعله يعتقد أن المتكلم لا يثق في فهمه.. وكذلك فالتفصيل الذي يغني عنه الإجمال لا يصبح بلاغيًا بل عبئًا علي المضمون. وفي تلك الخطبة تحول التفصيل إلي علامة فرقة لا اتحاد. كان يكفي أن يقول إنني مهتم بالمواطن حيثما كان، وهذا الاختصار من شأنه تلافي نسيان الفئات التي نسيها والمحافظات التي لم ينوه باسمها، مما جعله يضطر إلي استدراك من أنساه الشيطان ذكرهم. . وهذا الذكر للشيطان الآمر بالنسيان تعبير من جملة التعبيرات الدينية التي تناثرت هنا وهناك وبعضها استعارة من تجارب حكم أكثر من كونها دينية، مثل ترديد عبارة أبي بكر رضي الله عنه: "وليت عليكم ولست بخيركم" وكانت عبارة شديدة التقدم منذ خمسة عشر قرنًا. ولكنها تصلح لخليفة تم اختياره من النخبة في السقيفة ويخاطب جمهوره الأوسع، لكن الولاية في الحالة المعاصرة جاءت من الشعب نفسه ولا يصلح لها الفعل المبني للمجهول. وبالمثل كان تكرار "سأتقي الله فيكم" غير موفق سياسيًا، فالتقوي تضمن لصاحبها رضا الله ولا تضمن صحة القرارات، فقد يخطيء التقي لنقص المعلومات أو لانفراده بالقرار. ولهذا فإن التقوي تنفعه وإعمال القانون ينفع الشعب ولا يترك الأمر لتقوي الحاكم أو عدم تقواه.. هذا التلخيص لخطاب رئيس كل المصريين من اللغة الدينية إلي اللغة العملية ليس كراهية في الدين بل حبًا؛ لأننا يجب ألا نربط الدين بتجربة بشرية تواجه الصعاب إن فشلت يفشل معها الدين.. وفوق كل هذا نتمني ألا يغامر الرئيس بحوارات أو خطب نوايا مرة أخري، وأن يخرج إلي الناس في أول كلام قادم ببرامج تفصيلية لمشروع النهضة الذي لن تبنيه النوايا الحسنة.