نشرت هنا سلسلة طويلة بعنوان »ويسألونك عن التخلف«، أجدني مضطرا لاستكمالها بين الحين والآخر كلما جد جديد في تخلفنا. من يقرأ بعض الصحف المصرية في العامين الأخيرين علي الأقل يشعر بأجواء حرب دينية بدأت تستعر في المجتمع المصري. قد تكون هناك نذر لهذه الحرب موجودة ، لكن هذه الصحف تحولها الي سعار بالنفخ في نيرانها. يؤتي هذا النفخ أكله، فتزداد مظاهر هذه النذر اشتعالا. اهتمت هذه الصحف بحالات فردية لمسيحيات قيل إنهن أسلمن. وتحولت هذه الحالات إلي أحداث قومية تخرج من أجلها المظاهرات! يتدخل رجال الكنيسة فيرد عليهم رجال دين إسلامي. تنتقل المعارك الكلامية الي شاشات التليفزيون، يؤججها بعض مقدمي البرامج من ذوي الاتجاهات الدينية المتشددة، فيستضيف أحدهم كاتبا معروفا، يستدرجه حتي يردد هذا الكاتب أقوالا غير مثبتة عن تخزين سلاح في كنائس، فيرفع قبطي علي هذا الكاتب قضية.. وهكذا.. في هذا الجو المشحون يخرج باحث في التراث ليؤلف رواية يعيد فيها كتابة جزء من التاريخ المسيحي بشكل انتقائي يصطدم مع ثوابت الكنيسة المصرية . فهل هذا وقته ؟ أليست هذه بوادر حرب دينية في المجتمع المصري؟ طيب إذا اشتعلت هذه الحرب بسبب هذا النفخ المتواصل من وسائل إعلام فمن سيكسب ومن سيخسر؟ هل فكر من ينفخون في النار علي كلا الجانبين في نتائج هذه الحرب؟ هل سينتصر المسلمون المصريون علي المسيحيين المصريين؟ وكيف ستكون علامات انتصارهم؟ وماذا تستفيد مصر من هذا الانتصار؟ علي الجانب الآخر، هل يمكن للمسيحيين المصريين وهم أقلية أن ينتصروا علي مواطنيهم المسلمين؟ وكيف؟ وما الفائدة الوطنية؟ وإذا لم يستطع طرف أن يقضي علي طرف آخر ، فهل يكون البديل هو الإذلال مثلا ، خضوع طرف واستسلامه لطرف آخر؟ هل فكر من يلعبون بالنار في مثل هذه الأسئلة؟ ما هذه الهيستريا الدينية التي تنفخ فيها صحف وقنوات تليفزيونية؟ ما هذا الجنون الذي يحرك آلافا من الشباب ليتظاهروا مطالبين بظهور سيدة اسمها وفاء أو اسمها كاميليا أو أيا كان اسمها؟ ماذا يهم شعب يعيش ما يقرب من ربع سكانه من مسلمين ومسيحيين في مناطق عشوائية وتحت خط الفقر من إسلام وفاء أو إسلام كاميليا؟ وما أهمية أن تسلم واحدة أو ألف واحدة بالنسبة للإسلام؟ طيب هناك سيدة مصرية تملأ الدنيا ضجيجا من حين لآخر كانت مسلمة وتنصرت . وهناك واحد آخر اسمه محمد تنصر. لم تقم مظاهرات من المسلمين ضدهما ولا من المسيحيين معهما. فلماذا تقوم المظاهرات من أجل مسيحية أسلمت أو لم تسلم؟ كم سيخسر الإسلام بخروج واحدة أو ألف و كم سيكسب بدخول واحدة أو ألف؟ لقد انتصر المسلمون وهم قلة قليلة علي غيرهم وهم كثرة كثيرة في عهد سيدنا محمد وخلفائه حتي ساد المسلمون العالم. اليوم يعد المسلمون والمسيحيون في العالم بالمليارات وليس بالآحاد أو بالآلاف. هناك ملايين من المسلمين ومن المسيحيين في بقاع مختلفة من العالم بما فيها مصر يعيشون في فقر مدقع، يتسولون ويمرضون ويموتون ميتة بائسة ، فعلي من نبكي، ولمن تخرج المظاهرات؟ إلا أن الغوغاء لا يفكرون بصوت العقل. لا أجد تفسيرا لهذا الهوس سوي التخلف. إنه تخلفنا نتظاهر به أمام العالم في القرن الواحد والعشرين لتتناقله وسائل الإعلام . ننشغل بحرب دينية بلا طائل ونهدر الوقت والجهد والإمكانيات التي يجب أن نوظفها في تقدمنا وعلو شأننا بين الأمم. ونتيح الفرص لآخرين أن ينالوا منا ويحاولوا فرض إرادتهم علينا. إنه العار أيضا أن ترتزق وسائل إعلام مصرية من »الإثارة الدينية«. أن »تبيع« علي جثث المصريين مسلمين ومسيحيين. أتذكر دائما حديثا جري بيني وبين الزميل الصحفي عادل حمودة وقتما كان مسئولا عن تحرير مجلة »روز اليوسف«. كنا بين مدعوين علي غداء أقامته وزارة الثقافة آنذاك. نسيت مناسبة الغداء ولم أنس كلام عادل. لاحظت وقتها أن روزاليوسف تحولت إلي ما نسميه ب»الإثارة الصحفية« في عهده. كانت صفحات كل عدد منها تتوزع بين موضوعات ثلاث مثيرة: السياسة والدين والجنس. سألت عادل عن هذه الإثارة ، فرد ببساطة: »هي دي الموضوعات اللي بتبيع«. الآن تجاوزت صحف مصرية إثارة روزاليوسف. وأصبح عادل محافظا بالنسبة لهذه الصحف . لا أريد أن أسمي صحفا بعينها. يكفي أن يطالع القارئ الصحف المصرية لمدة أسبوع واحد وسوف يعرف الصحف التي أعنيها. إرجع لأعداد هذه الصحف في الأسابيع الماضية لتتعرف علي توزيع معادلة الإثارة علي صفحات كل جريدة. دين وسياسة وجنس. وكيف أصبحت الغلبة مؤخرا للإثارة الدينية. هناك صحيفة خصصت نصف صفحاتها لموضوعات الإثارة الدينية. إجمع الصفحات التي تحدثت عن السيدة كاميليا وما قيل عن إسلامها وأخبرني. واسأل نفسك في هدوء: هل يستحق إسلام سيدة كل هذه الصفحات؟ إنه الفراغ القاتل لشبابنا الذين لا يجدون ما ينفثون به عن أنفسهم سوي الخروج في مظاهرات من أجل سيدة أسلمت أو رجعت عن الإسلام. تماما مثل الفراغ القاتل لشبابنا الذين يخرجون في مظاهرات عارمة انتصارا لناديهم الرياضي . فيشعلون النيران ويحطمون الممتلكات ويذهبون الي أقسام البوليس أو السجون حبا في الأهلي أو الزمالك. طيب لماذا لا يحبون مصر أكثر ؟ لقد صغرت مصر بالنسبة لهم إلي ناد كبير! إنه التحدي الكبير لكل النظم التعليمية والتربوية والاجتماعية والشبابية والرياضية والثقافية في هذا البلد. إنه التحدي الكبير للمؤسسات الدينية والإعلامية في هذا البلد. والتحدي الكبير لكل الأحزاب السياسية في هذا البلد. أخشي من الفشل الكبير المتجسد في إهمال الشباب حتي يتظاهروا من أجل سيدة ، ويحطمون ممتلكات الناس من أجل ناد. وما نزرعه نحصده. نزرع فشلا فنحصد خرابا. يجب وقف اللاعبين بالنار في صحف مصرية عن لعبهم. إذا كانوا يجهلون عواقب لعبهم فتلك مصيبة. وإذا كانوا يعلمون ويقصدون فالمصيبة أعظم لأن ذلك يصل الي مرتبة الخيانة. تدمير الوحدة الوطنية خيانة. النفخ في حرب أهلية خيانة عظمي. يجب أن يتحرك مجلس الشعب في انعقاده الجديد لتشريع تجريم التظاهر من اجل موضوع له علاقة بالدين، أي دين كان. وتجريم نشر موضوعات إعلامية في الصحف أو التليفزيون تهدد الوحدة الوطنية . يجب أن يتدخل المجلس الأعلي للصحافة ونقابة الصحفيين من أجل وقف المتاجرة بالدين في صحف مصرية. يجب أن يقتصر تناول وسائل الإعلام للموضوعات الدينية علي الموعظة الحسنة فقط، تلك التي دعانا إليها القرآن الكريم. يجب أن يتوقف هذا السعار الذي سيأكل الأخضر واليابس. يجب أن ترعوي شخصيات تتحدث باسم الإسلام وباسم المسيحية وتركز حديثها علي مصر الوطن وليس مصر الدين. لأن الدين لا وطن له . الدين للناس أجمعين. القرآن الكريم نص صراحة، ليس فقط علي حرية الاعتقاد الديني، بل علي حرية الكفر أيضا: »فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر« (سورة الكهف ). فسر القرطبي هذه الآية بأن من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر. كما نص القرآن علي أنه »لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي« (سورة البقرة). فكيف يتسع الإسلام لهذه الحرية ويضيق مسلمون معاصرون بها؟ أعرف أن أسلوب مقالتي هذه يختلف عن أسلوبي المعتاد في مقالاتي وكتبي. لكني أري الخطر محدقا بنا. وعندما يوشك مركب علي الغرق لا يمكن للمرء أن يحافظ علي هدوئه. بل علينا جميعا أن نهرع لننقذ مركبنا الذي نعيش فيه. إنهم يتحدثون عن إنقاذ كوكب الأرض كله من تأثير ارتفاع الحرارة. أريد أن ننقذ بلدنا من حريق الفتنة الطائفية. تظاهروا في العاصمة السويدية من أجل إنقاذ كوكب الأرض. وتظاهروا في العاصمة المصرية من أجل سيدة. أرأيتم كم نحن متقدمون عن السويد؟