تدفع الحكومة الآن ثمن التراخي في التعامل الجاد مع ملف أراضي الدولة وما شابه من أخطاء وفساد وتصرفات خاطئة علي مدي سنوات عديدة وحكومات مختلفة . وفي الشهور الأخيرة كان واضحاً أن الملف لم يعد قابلاً لإرجاء التعامل معه، وتوالت الوقائع بدءاً من ملف الأراضي التي بيعت بدون مقابل تقريباً علي أمل تحويلها لأرض زراعية منتجة فإذا بها تتحول إلي منتجات سكنية فاخرة تحقق لأصحابها ثروات خرافية ، ثم تدخل الرئيس مبارك لأبطال صفقة بيع فندق " جزيرة " آمون بأسوان ، كما تم إيقاف صفقة بيع ارض التحرير ، ومع توالي الحديث عن صفقات مشبوهة وحقوق للدولة ضائعة تدخل رئيس الدولة مرة أخري ليوقف الصراعات علي كيفية التعامل مع هذا الملف ، ويطلب من الحكومة إعداد قانون موحد وقواعد واضحة للتعامل في أرض الدولة وتوحيد جهة الاختصاص حتي لا تضيع المسئولية . ثم هاهو - للمرة الثالثة - يتدخل بعد الحكم ببطلان عقد "مدينتي" فيتم تشكيل لجنة مستقلة لبحث الموضوع ووضع الحلول التي تحترم حكم القضاء وتحفظ حقوق كل الأطراف . وهي مهمة كان من المفترض أن تكون الحكومة قد قامت بها مسبقاً وقبل صدور الحكم النهائي في القضية ، ولكن المفترض شئ ، وما تفعله الحكومة شئ آخر ، والنتيجة هذا الكم من المشاكل التي تفاجئ الحكومة كما تفاجئنا نحن المواطنين الغلابة !! وبعيداً عن التهويل الذي يتم الترويج له بشأن حكم " مدينتي" فأظن أن الحل ليس صعباً ، وربما كانت هذه الورقة من أسهل الأوراق في ملف أراضي الدولة . ومن المؤكد أن أحداً من الحاجزين في المشروع لن يمسه ضرر ، فالثمن الذي تعاقدوا به علي الوحدات السكنية والذي يزيد علي خمسة آلاف جنيه للمتر المربع ( وهوأكثر من ضعف سعر السوق وقت التعاقد ) يعطي الفرصة الكاملة لسداد أي فرق في سعر الأرض تستحقه الدولة دون أن يتحمل الحاجزون أية أعباء إضافية . والتلويح بأن هناك 150 ألف عامل يعملون بالمشروع يمكن أن يتهدد عملهم هوأمر خارج الموضوع لأن الذين يقولون ذلك يعلمون أن المشروع سيستمر والتعاقدات سيتم تنفيذها . أما التلويح بأن بعض الأجانب من أصحاب الأسهم قد يلجأون للتحكيم الدولي ، فهوكلام مردود عليه بأن اختصاص القضاء المصري في هذا الأمر لا خلاف بشأنه ، ثم إن سعر الأسهم الذي كان قد تأثر بلا شك بعد صدور الحكم ، قد عاد تقريباً لما كان عليه بعد تدخل رئيس الدولة والإجراءات التي تم اتخاذها للحفاظ علي المشروع . بينما ما كان يستدعي اهتمام المساهمين ومساءلة الإدارة هوهبوط سعر الأسهم بأكثر من نصف قيمتها بعد قضية القتل إياها التي تورط فيها رئيس الشركة السابق !! من هنا نقول إن الحل ليس صعباً ، وهوفي كل الأحوال سيحفظ حقوق الحاجزين لأن التسهيلات التي حصلت عليها الشركة في ثمن الأرض لم يستفد منها هؤلاء الحاجزون ، وبالتالي فإن حصول الحكومة علي السعر العادل للأرض لا ينبغي مطلقاً أن يمس الأسعار التي تعاقدوا بها والتي مازالت - حتي الآن - أعلي من أسعار السوق . وهونفس الأمر في الكثير من الحالات التي لابد من مراجعتها - دون انتظار لاحكام قضائية - فالذين حصلوا علي فدان الارض بمائتي جنيه في طريق مصر اسكندرية الصحراوي ثم حولوه لمنتجعات سكنية فاخرة لم يكونوا يبيعون بنفس الأسعار أوبربح معقول ، بل باعوه - مع الإكرام والشئ لزوم الشئ - لشركات يساهم فيها مسئولون كبار ، بمليون جنيه للفدان ، ليباع بعد ذلك بأضعاف هذا الثمن !! ولا ينبغي التهويل أيضا بالتأثير علي الاستثمار ، فمعظم المستثمرين العرب والأجانب في العقارات اشتروا بسعر السوق ، والصفقات الفاسدة في هذا المجال معروفة ومعروف من تورطوا فيها ، وبالتالي فحق الدولة فيها ينبغي أن يعود لها بدلاً من أن يدخل جيوب السماسرة والمحظوظين . من ناحية أخري فقد عاني المستثمرون الحقيقيون من عدم وجود أرض لمشروعاتهم سواء في مجال العقار اوفي مجال الصناعة كما حدث في منطقة شرق السويس الصناعية التي استولي عليها المحظوظون بما يقرب من الأسعار المجانية مع تحميل الدولة أسعار توصيل المرافق ، ليفرضوا - بعد ذلك - علي المستثمرين الحقيقيين أن يشتروا منهم وبالأسعار التي يحددونها، محققين ثروات طائلة هي من حق الدولة !! ولم تكن هذه هي الخسارة الوحيدة، فالخسارة الأكبر هي تعطيل مشروعات كان المسئولون في وزارة الاستثمار يبحثون لها عن أرض، بينما الأرض في "بيت الطاعة" الذي يملك مفاتيحه من استأثروا بأرض الدولة بالحق أحيانا ، وبالباطل أحيانا ، وبالنفوذ الذي جمع بين المال والسلطة في كل الأحوال !! ليس هناك ما يخيف المستثمر الجاد من حكم القانون ، بل إن غياب القانون اوتغييبه هوالذي يخيفه . وقد طالبنا منذ سنوات بقانون ينظم عملية " الخصخصة " ويحدد ما يجوز بيعه وما لا يجوز ، ويضع القواعد والإجراءات المنظمة لذلك ، ولم يصدر القانون ، وبقي الأمر خاضعاً للاجتهاد الشخصي ، فانفتحت أبواب للفساد وللتلاعب بأموال الشعب مازلنا نعاني منها حتي الآن . وطالبنا - مع غيرنا - منذ سنوات - بتفعيل مواد الدستور التي تمنع الوزراء ونواب البرلمان من التعامل التجاري مع الدولة . ولم تصدر القوانين المطلوبة لذلك ، فكان ما كان من تداخل السلطة مع المال ، ومن صفقات يمنعها الدستور ولكنها تتم في غياب القانون وقد قيل أخيراً إن القانون قد تم إعداده وسيأخذ طريقه لمجلس الشعب في الدورة القادمة ، ولا اعرف مصير هذا القول بعد رحيل وزير الاستثمار محمود محيي الدين صاحب مشروع القانون إلي موقعه الدولي الجديد !! وها نحن ننتظر القانون الذي ينظم التصرف في أراضي الدولة ويمنع نهبها ويضعها تحت إدارة جهة حكومية مسئولة واحدة تستعيد حقوق الدولة ، وتضع حداً للجرائم التي تمت في هذا الملف الخطير ، حتي وإن رأي البعض أنها مجرد " "مخالفات إدارية" !! آخر كلام: عندما يتحدث المعماري الكبير الدكتور علي رأفت عن قضايا الإسكان والتعمير فعلينا جميعاً أن نقرأ وأن نستفيد . في مقال رائع في " أهرام " الثلاثاء الماضي يقدم المعماري الكبير درساً في "الاستثمار المستنير " الذي لا يخدم الأغنياء علي حساب الفقراء ، والذي لا يري في ترشيد الاستثمار وتوزيع عوائد علي الناس توزيعاً للفقر و البؤس كما يري أنصار " الأغنياء أحباب الله " .. لا غفر الله لهم !! لم أتابع حوار الدكتور محمد سليم العوا مع المذيع إياه في قناة " الجزيرة " ولكن عندما ما يكون الدكتور العوا بالذات طرفاً في صراعات طائفية ، فهذه - بلا شك - علامة شر مستطير ! في عز الموسم السياسي ، وقبل شهرين من انتخابات مجلس الشعب ، ينشغل الرأي العام بقضايا " خطيرة!!" مثل حكاية الست كاميليا وصراع الأمة حول إسلامها أونصرانيتها ، ومشاكل الكابتن شيكابالا ، وتوابع مسلسلات رمضان في التليفزيون بدءاً من "الجماعة " و" همام " وحتي الست زهرة وأزواجها الخمسة !! .. متي نجد وقتاً للحوار حول قضايانا الحقيقية ؟!