د.عمرو عبدالسمىع مؤسسة الخارجية المصرية هي واحدة من عمد الهياكل السيادية في البلد.. والتعرض للخارجية في وسائل الإعلام (بعيدا عن التغطيات الاخبارية) ينبغي ان يكون باحتراس من جانب كل صحفي أو إعلامي يقرر الاقدام عليه، وذلك حفاظا علي سلامة هذه المؤسسة وتماسكها، وبخاصة مع عدم استقرار الأوضاع في البلاد، والهشاشة السياسية والاقتصادية التي صارت سمتا سائدا في اللحظة الراهنة. فضلا عن ان محاور السياسة الخارجية هي انعكاس للاجماع الوطني، ونحن في توقيت ليس فيه أي اجماع، إذ بيننا من يري لمصر دورا قائدا يعيد لها مجدها الإقليمي والدولي الذي شهدته في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وبيننا -في ذات الوقت- من يدفع بمصر إلي الرضاء (إقليميا) بأن تكون مجرد وصيفة لتركيا أو إيران، وبيننا -ثالثا- من يطيح اعتبارات الأمن القومي المباشرة والمتعلقة بالحدود الشرقية أو الغربية - أو الجنوبية لبلدنا، مخففا (عمديا وقصديا) من أخطارها، ومرتبا الأولويات في أذهان أفراد الشعب علي نحو يغاير كل الوجوبيات المفترض التزامها. وبناء عليه.. أجلت التعرض لذلك الملف عدة مرات، كما آثرت التريث في مناقشة أداء وزير الخارجية السيد محمد كامل عمرو لفترة كافية حتي أتبين ملامح إدارته للوزارة، فهو من العناصر القليلة جدا في الصف الأول من قيادات ذلك المرفق الذين لم تربطني بهم علاقة مباشرة أو نقاشات رأسا برأس، فضلا عن ان تاريخ خدمته لفترة في السعودية وفترة أخري في البنك الدولي (31 عاما) ليس فيه انجاز يذكر يمكن اعتباره علامة دالة ومشهورة حول أثر الرجل المهني أو الوظيفي. وطال صبري حين لاذ وزير الخارجية بالصمت لفترة امتدت -منذ توليه مقاليد منصبه- دون داع، ثم تكاثرت دهشتي حين اكتشف الرجل- مؤخرا - لذة الكلام، فتحدث في كل وسائط الاعلام فجأة، وبشكل مكثف، وكأنه يريد -فقط- ابلاغ الناس بقدرته علي الحديث.. والاصل ان وزير الخارجية هو من رجال الدولة الذين ينبغي عليهم التحدث إلي الناس والعالم علي نحو شبه يومي، أو كلما جد تطور في الإقليم أو الدنيا يقتضي أن نطرح فيه وجهة نظر مصر، والأصل -كذلك- ان وزير الخارجية (ان تحدث) ينبغي ان يجئ مضمون حديثه مشتملا علي رسائل محددة، لا هي بلاغية، ولا هي انشائية، ولا هي -أخيرا- امضاء بالحضور في دفتر الصحافة والإعلام وخلاص، لادعاء ان الحوار موصول والكلام دوار مع من يجب عليه مخاطبتهم داخل مصر أو خارجها.. وكان انعقاد القمة العربية -مؤخرا- في بغداد سببا في كتابتي هذه السطور، إذ كان حجم مصر (عربيا) في المؤتمر لافت في محدوديته، ولم يذكر أحد المتحدثين بلدنا بكلمة واحدة خلال المؤتمر علي الرغم من انه بلد خرج من ثورة كان المفترض ان تقوده لان يحتل (عربيا وبالتالي دوليا) مكانه اللائق تحت الشمس، وكان ترتيب وزير الخارجية المصري في الحديث هو قبل الأخير وفقا لتوقيت طلب الكلمة، وصحيح ان ذلك -عمليا- ليس له دلالة، ولكنه -شكليا- يوحي بان الآخرين أرادوا لنا -كما ارتضينا نحن- تلك الوضعية، فضلا عن ان مضمون كلمة مصر لم يك لافتا علي أي مستوي، اذ لم يشتمل علي (رؤية جديدة) أو (فكرة خلاقة) أو شيء يفيد بان مصر تغيرت بالفعل، وانها (في تبادلية علاقتها مع العالم العربي) قادرة علي ان تلهمه بأي شيء. أينعم.. هناك ثوابت هي ركائز السياسة الخارجية والأمن القومي، ولكن هناك -كذلك- متحركات هي (الوسائل) التي تسعي مصر لامتلاكها أو اتباعها، أو تحشد جوارها العربي من أجلها، وهذا ما لم أجده -مطلقا ومع كثير الأسف- في خطاب السيد محمد كامل عمرو بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي هذا السياق أظنني محتاج إلي تقرير ثلاث نقاط أتعرض للأولي منها هذا الأسبوع وهي نقاط بعيدة عن مؤتمر القمة العربي، وانما تقع في صلب أداء الخارجية المصرية. أولا: السياسة الخارجية -في جزء كبير منها- هي رؤية تأخذ في اعتبارها معطيات امتلاك بلد ما لعناصر القوة السياسية الشاملة، واستخدامها في هندسة وبناء سياسات مستقبلية تحقق مصالح ذلك البلد.. وبالقطع أضع -حين اتكلم من وحي اللحظة الراهنة- في اعتباري وضعنا الاقتصادي المهلهل (كان احتياطينا المركزي 63 مليار دولار فصار 41).. وعلي المستوي الثقافي صرنا في حال يمسك فيها بعض الشعب بتلابيب البعض الآخر في شجار متصل حول الهوية التي ينبغي ان نعرف شكل التوافق حولها قبل ان نشرع في تصميم دور يعتمد علي العنصر الثقافي كأحد عناصر القوة السياسية الشاملة.. وعلي المستوي الأمني نحن في بلد يسرح فيه المجرمون ويشغي فيه البلطجية، ويتصل فيه كفاح الدركيين والشرطة لمواجهتهم في بيئة غير صديقة، ونحن في بلد يشهد تفجير خط الغاز في سيناء 41 مرة منذ قيام الثورة، ولم تستطع اجهزتنا الأمنية أو المعلوماتية توفير الحماية له.. ونحن في بلد تتدفق فيه آلاف من قطع السلاح الصغيرة والثقيلة عبر الحدود الليبية لتغمر سوق عطشي للتسلح تخديما علي أغراض سياسية واجرامية لقوي محلية، أو تجاوبا مع الزامات أچندات إقليمية وأجنبية تعمل في مصر. نعرف كل ذلك وأكثر، ونعرف انه يؤثر علي تماسك القاعدة المحلية التي تتكئ عليها الخارجية في رسم حركتها وتقرير سياستها، ولكننا لم نسمع -حتي- عن رؤي وزارة الخارجية المستقبلية في تغييرات دراماتيكية يمر بها العالم، ويفترض اننا ملزمون بمواجهتها لأنها ستحكم شكل الدنيا خلال العشرين عاما القادمة.. فالدنيا كلها تعلم -مثلا- ان الصين تجتهد (طموحة) لإحتلال مقعد التفوق في القرن 12، أو علي الأقل الوقوف -كتفا بكتف- مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي جعلت من القرن العشرين قرنا أمريكيا، ولكن الخارجية المصرية لم تقدم لنا مشروعا للتعامل مع متغير الصين، وهو وثيق الصلة -حتي- بإقليم الشرق الأوسط كما سأبين.. وصحيح ان الصين ميالة لأن تلعب في المحيط الهندي، وفي جوارها الأسيوي، كما انها تحاول تأمين أقاليمها البعيدة مثل التبت الذي تثور ضد بكين اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان فيه، أو إقليم »سنتياج« الإسلامي المتوتر، ولكن خبراء السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي مع ذلك يتتبعون كل شاردة وورادة تتعلق بذلك العملاق الأصفر حتي أن مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بيرجينسكي أصدر كتابا في يناير الفائت (قرأت ملخصا له) بعنوان (STRATIGIC-VISION) أو رؤية استراتيجية (وهو وثيقة رائعة في تقرير أهمية الصين) محاولا الاجابة علي أسئلة من طراز: هل تحتضر أمريكا أمام الصين، أم هي مازالت قادرة علي الامساك بعناصر القوة السياسية والاستراتيجية بما يجعل القرن 12 أمريكيا هو الآخر، وكيف يمكن التصدي للصين؟.. واللافت ان بيرجينسكي تجاهل منطقة الشرق الأوسط علي نحو كامل، ان توقف اهتمامه بالمنطقة عند تركيا، أما الشيء الوحيد الذي ذكره ويخص العرب فهو ان قوي الإسلام السياسي التي تولت حكم بعض بلاد المنطقة بعد الربيع العربي ربما تدخل في صدام مع الغرب يضر مصالحه.. أما هنري كيسنجر فقد أصدر كتابه، ON-CHINA أو عن الصين في مطلع العام المنقضي وفيه تنوعت المداخل حول ما هية الصين، ونموذج النمو الصين، ومقارنة بين تضاغط الغرب (بما فيه أمريكا) والصين، وبين ألمانيا وبريطانيا (عام 0191) إذا راحت ألمانيا تبني أسطولا لأعالي البحار في مواجهة بريطانيا الفيكتورية (سيدة البحار) بما دفع إلي التساؤل ان كان ذلك سيقود إلي حرب، وبالفعل كان واحدة من الخطي التي دفعت إلي الحرب العالمية الأولي.. وبنفس القياس طرح كيسنجر سؤالا عن الاستقطاب الصيني/ الغربي، وما إذا كان سيفضي بالعالم إلي حرب جديدة، واستطرد: كيف يمكن استغلال الهند (متحالفة مع الغرب) لامتصاص الطاقة الصينية، وهل يمكن استخدام النتوءات الآسيوية الصاعدة (ڤيتنام -كوريا) في تعويق الصين أو عرقلتها؟ يعني الصيد محور أساسي في العقدين القادمين، وسوف يؤثر ذلك -فيها هو مفترض- علينا بالدور الذي ستضطلع به الهند وتأثيره علي الخليج العربي (وثيق الصلة بالأمن القومي المصري)، أما الذي أشار له بريجنسكي حول أنظمة الربيع العربي الإسلامية (ومنها مصر) وتأثيرها علي أمريكا فهو نظرة ستؤثر علينا -بالقطع- هي الأخري، (علي الرغم -مثلا- من ان السيناتور جون كيري حذر يوم الخميس الماضي من التضاغط بين المجلس العسكري والإخوان)، ولكن -في التحليل الأخير هناك لمحة عداء أمريكية للأوضاع التي أسفر عنها الربيع العربي. الانصراف الأمريكي عن الشرق الأوسط، ودور متنامي للهند هي مسائل تدخل في لحم وعظم اهتمامنا، ولكننا لم نسمع عن تحرك لوزارة الخارجية المصرية تجاه الصين يمد بصره إلي ما وراء المستنقع المحلي جدا الذي تراوح مكاننا فيه.. ثم ان الغرب سيعمل علي تقييد الصين الصاعدة بالتجارة والاستثمار وتبادل المعرفة وسيحاول التعامل مع قوتها الاقتصادية الهائلة (3 تريليون دولار).. فهل لدينا تصور عن تأثير ذلك الاقتراب الأمريكي الاقتصادي نحو العملاق الأصغر علي منطقتنا، وبخاصة ان ذلك التركيز سيبدأ -مباشرة- عقب الانسحاب من أفغانستان بعد عام 4102؟! وفي الأسبوع القادم نكمل سواء ما يتعلق بالمتغير الروسي، أو شكل التحرك المصري مع تونس وليبيا.