للقراء الأعزاء علي اختفاء مقالتي في الأسبوع الماضي . فلقد تسبب خطأ غير مقصود في عدم نشر المقالة . كتبت في الأسبوع قبل الماضي عن التدهور الذي شاهدناه في كثير مما قدمته قنوات تليفزيونية في شهر رمضان الماضي. قلت إن هذا يعكس التدهور ذاته الذي حدث في المجتمع . وبعد أن تحدثت عن التدهور كما عرضه التليفزيون، التفت إلي التدهور كما نراه في الواقع. والواقع أن هذا التدهور شديد حسب ما تابعته شخصيا ورآه غيري بلا شك. وهو الأساس فيما ألقي به علينا من شاشة التليفزيون. في الدول المتقدمة هناك مراكز بحث علمي تدرس ما يحدث في المجتمع من تغيرات وتسجلها وتحللها وتستخرج نتائجها. توجه هذه الدراسات إلي ما يسمي بمراكز صنع القرار في البلد لتستفيد منها فيما تصدره من قرارات. وتتكون مراكز صنع القرار هذه من مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.. أشعر ويشعر كثير معي بثغرة كبيرة في العلاقة بين مراكز البحث العلمي ومؤسسات الدولة . هناك ثلاثة احتمالات: أن مراكز البحث لا تقوم بواجباتها. . أنها لا ترسل دراساتها إلي مؤسسات الدولة كي تستفيد منها في صناعة القرار.. أن مؤسسات الدولة لا تهتم بما يصلها من دراسات. السؤال المهم: كيف نعرف الاحتمال الصحيح من بين الاحتمالات السابقة ؟ للإجابة علي هذا السؤال نحتاج الي مركز علمي ليدرس ويرد علينا ! فأين هذا المركز؟ إذن وطالما لا نعرف ماذا تفعل المراكز العلمية ولا ماذا تفعل مؤسسات الدولة فيما نراه من تدهور شديد في المجتمع . ليس لدينا سوي القيام بقراءة شخصية للواقع ومحاولة تحليل ما نقرؤه. هذه القراءة يمكن أن تستغرق صفحات كتاب كبير، ويمكن أن تأخذ مساحة سلسلة من المقالات العديدة، كما يمكن أن تتناثر في مقالات متفرقة كما يفعل كثير من زملائي الكتاب في الصحف. أكتفي هنا اليوم بذكر بعض الشواهد علي ما أصاب المجتمع المصري من تدهور شديد مستشهدا بما حدث لفن الغناء.. من بين هذه الشواهد: كتبت وأنا طالب في كلية الإعلام في منتصف السبعينيات من القرن الماضي مقالة، في جريدة صوت الجامعة التي كنا نصدرها، عما سميته برحلة هبوط الأغنية المصرية من منيرة المهدية إلي أحمد عدوية. كان عدوية هو أحدث صيحة في عالم الغناء الذي كنا نصفه بالهابط عندما كتبت مقالتي تلك. كان سائقو سيارات الأجرة وأصحاب المحلات قد فتحوا علينا أجهزة الكاسيت تنطلق منها رائعته »السح الدح امبو«. الآن يعتبر هذا ال»السح« من الكلاسيكيات المحترمة . ففي الثمانينيات تجاوزه مطرب آخر بروائعه ومنها »كوز المحبة اتخرم «، بعد ذلك ظهر من تجاوز الاثنين ، وهو واقع الأمر ليس بمطرب ، لكنه ظاهرة عبرت بصدق عن جانب مما أصاب المجتمع المصري ، فصوته لا ينتمي إلي أية طبقة موسيقية، وكلامه لا علاقة له بقواعد تأليف الأغاني أو الزجل أو الشعر العامي، يستغرق نصف الأغنية في صوت واحد هو »إييييه«، ويستكمل شهرته بملابس وحلي أشبه بالمهرجين. تزامن ظهوره مع موجة ممن يمكن تسميتهم بمطربي المخدرات. أخص منهم صاحب رائعة »طلقة بانجو«. مع دخول مصر في القرن الحادي والعشرين هلَّ علينا طور جديد من التطور الطبيعي لمسيرة الانحطاط. تمثل هذا الطور في المطربات الراقصات أو الراقصات المطربات، لم يعد هناك معني ولا جدوي من امتلاك صوت جميل مميز، أصبحت المعاني تتمحور في الأجزاء والتعبيرات الجنسية لجسد المطربة. استكملت المطربات الجديدات مواهبهن بكلام أغانيهن وطريقة غنائهن الداخلة في غرف النوم في البيوت السرية. الأدهي من المطربات الجديدات الراقصات ظهور المطرب الراقص أو الراقص المطرب والذي ينافس أكثر الراقصات إثارة في رقصه . لم يكتف سيادته بتعبيراته الراقصة، بل تلازم غناؤه مع كلمات وحركات دالة علي ممارسة الفحشاء مع غيره من الراقصات علنا وأمام الجمهور وكاميرات الفيديو. علي الجانب المحترم من الغناء ، فقدنا أصواتا وطرق أداء وكلمات كبار محترمين أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وتوقفت نجاة وشادية وعفاف راضي عن الغناء. لم يظهر في الأجيال الحالية من يضارعهم أو يتفوق عليهم. في الغناء الموصوف بالشعبي الذي ظهر فيه عدوية ومن تلاه من مطربي المخدرات والإيييه والفحش لم يظهر من يضارع أو يتفوق علي أمثال محمد طه ومحمد رشدي وخضرة محمد خضر وفاطمة سرحان. تدهورت كلمات الأغاني . أصبحت من أكثر الكلمات احتراما أغنية تقول: »قوم اقف وانت بتكلمني«! ومن أكثر كلمات الأغاني الشعبية احتراما أغنية تقول: »الواد ده إيه والواد ده آه الواد ده لأ«! بعد هذا الكلام، أعود إلي مقالتي في جريدة صوت الجامعة التي نشرتها منذ ما يقرب من 35 سنة، لأكتشف أن ما وصفته بهبوط الأغنية المصرية حتي ذلك الوقت لا يقارن بالانحطاط الذي حدث لها بعد ذلك وحتي الآن.. لم تقتصر مظاهر الانحطاط الأخلاقي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين علي الغناء والرقص المعلنين ، فقد أتاح لنا الإنترنت فرصا أخري للتعرف علي مظاهر الانحطاط، منها انتشار فيلم فيديو طويل لراقصة ممثلة وهي تمارس الجنس مع رجل أعمال. وسمعنا أحد المشاهير في مجال كرة القدم، يتبادل ألفاظا جنسية نابية مع محررة في صحيفة خاصة في التليفون. وانشغلنا بقضية مقتل واحدة من المطربات الجديدات أدين فيها رجل أعمال شهير وضابط سابق في الشرطة. هذه مجرد أمثلة. أفعال التدهور الأخلاقي موجودة في كل مجتمع وفي كل زمان علي وجه الأرض. فأي إنسان فيه نوازع الخير ونوازع الشر . تصبح هذه الأفعال مشكلة في المجتمع عندما تتحول إلي ظاهرة علنية مرتبطة بعوامل عامة وليست تصرفات فردية. تزداد هذه الظاهرة خطورة إذا دخلت مجال السياسة كما رأينا في مجلس الشعب علي مدي دوراته في العقدين الأخيرين مما لم نسمع به من قبل . فقد أدين عدد من أعضائه في باقة متنوعة من القضايا مثل الاتجار في المخدرات والاستيلاء علي المال العام والتهريب. . من المؤشرات المرتبطة بالظاهرة الاجتماعية مدي قبول أو رفض المجتمع لهذه الأفعال غير الأخلاقية. فمن الطبيعي أن يرفض المجتمع الأفعال الدالة علي الانحطاط الأخلاقي. أما إذا قبلها نكون إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة، تحتاج الي بحث وإلي علاج. . فكيف تعامل المجتمع المصري مع مظاهر التدهور الأخلاقي التي شاهدها من أصحاب الأمثلة السابقة التي ضربتها وغيرهم وغيرهن؟ انتشرت الأغاني الهابطة انتشار النار في الهشيم، أصبحت مطرباتها ومطربوها نجوما لامعة وارتفعت دخولهم المادية بالملايين. وبدلا من أن تشعر راقصة رجل الأعمال بالعار فتنزوي، تصبح أكثر انتشارا في الأفلام والمسرحيات، وتقبل عليها برامج التلفزيون في كل القنوات الحكومية والخاصة لتسجل معها أحاديث شيقة، مثلما تقبل علي أخينا الرياضي. ورجل الأعمال الذي ظهر معها في الفيديو إياه عاود نشاطه المعتاد، بل ودبجت في مديحه مقالات منشورة. المطرب الراقص الفاحش لا يزال يمارس »إبداعه« وفي الوقت نفسه بني جامعا بجوار بيت !! مع ارتفاع دخله من »عرقه«. رضا المجتمع عن مثل هذه الممارسات لم يكن متخيلا قبل ربع قرن فقط. دلالة ما سبق واضحة: أن معايير الأخلاق في المجتمع تغيرت بحدة. الأصعب في هذا الموضوع ليس البحث في المشكلة وإنما علاجها. لأنه مرتبط بأوضاع أخري غير اجتماعية ، وإنما سياسية واقتصادية وثقافية. بمعني أنه إذا أردنا علاج ظاهرة الانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما، علينا علاج مشاكله السياسية والاقتصادية والثقافية مع مشاكله الاجتماعية. كل واحد لا يتجزأ.