ونستكمل ملامح "العلمانية المتسامحة" في مولد المظاهر التالية: توجه عهد السابع من نوفمبر1987 للرئيس زين العابدبن بن علي إلي المجتمع بخطاب ديني جديد اقتنع من خلاله بأن العولمة ليست بالضرورة تتهدد الهويّات لا سيّما الهويّة التونسية المرتكزة علي جوهر الإسلام الخالص وعلي إرث تاريخي عريق. كما تركّز الخطاب الديني علي أن الشعب التونسي أثبت علي مرّ القرون تعلّقه بدينه. وأيقظ الخطاب الدّيني في العقول خصال تونس التي كانت وظلّت موقعا متقدما لنشر الإسلام ودرء المخاطر عنه. فشعب تونس تضافرت في تشييد بنائه الاجتماعي وشدّه إلي الأمّة الإسلامية مقوّمات مشتركة وحّدت بين صفوفه ونفت عنه موجات الفرقة والتمزّق وأهّلته لأن يكون قطبا من أقطاب الإشعاع الديني المستنير فقام علي صغر المساحة الجغرافية بأعباء الفكر والنضال في سبيل الإسلام ونشر وإشاعة دعوة الحق. لقد تميزت تونس بالمسيرة العلمية لجامع الزيتونة من خلال الانتصار لعلم المدينة وفقه الحجاز في إفريقيا، وليس فقة نجد الذي رفضة علماء الزيتونة تاريخيا، أرضه الخصبة فاستقرّ بها مذهب السنة والجماعة باعتداله وثرائه. من هذا التاريخ وينهل الخطاب الدّيني وينفض الغبار علي الماضي بلغة واضحة، مركّزة علي احياء اشعاع تونس الفقهي انطلاقا من جامع الزيتونة. فالمشروع المجتمعي الجديد: " للعلمانيه المتسامحه"، بني علي النجاح في التمييز بين أصول الدين وفروعه وبين المقدّس الثابت والزمني المتغير والخاضع بفعل التحوّلات أو ما يعرف اليوم بالعولمة. وانتقل الي التأثير للميراث الفرنسي الذي يتمثل في الفرانكفونية. ويعتبر الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الأب الروحي والمؤسس الحقيقي للفرانكفونية، وقد تحدث بورقيبة عن ذلك مفتخراً، في معرض حديثه عن تاريخه ومسيرته الشخصية؛ فقال في لقاء صحفي له مع إحدي الصحف الفرنسية: "إن مستقبلنا مرتبط بمستقبل الغرب عموماً ومتضامن مع مستقبل فرنسا خاصة... ونحن نتجه اليوم من جديد إلي فرنسا. إنني أنا الذي تزعمت الحركة المنادية بالفرانكوفونية، فالرابطة اللغوية التي تجمع بين مختلف الأقطار الإفريقية أمتن من روابط المناخ أو الجغرافيا". وقال في مقابلة أخري له مع صحيفة ليفيغارو :"... إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله، متضامنون بصورة أخص مع فرنسا. وتدعيم الروابط مع فرنسا وبصورة أخص في ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرانكوفونية تولدت هنا". هكذا يفتخر بورقيبة بلغته الفرنسية وأساتذته الفرنسيين وثقافته الفرنسية وبحبه ووفائه لفرنسا الذي دفعه إلي رد الجميل بتزعم حركة الفرانكوفونية وتأسيس رابطة الشعوب الناطقة بالفرنسية. ويمكن القول ان هناك نمطين من الفرانكوفونية: اولها، التركيز علي فرنسة الشعوب المستقلة، وتنحية لغاتها الأصلية، وتعويضها باللسان الفرنسي، والسعي لإلحاقها حضارياً وثقافياً بالمشروع الحضاري الغربي، ثانيها اتي بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط القطب الروسي، واتجاه أمريكا إلي الانفراد بقيادة العالم، والسيطرة علي مقدراته الاقتصادية، وصهره في بوتقة ثقافة عولمة الامريكية ؛ وفيه تخفف فرنسا من غلوائها تجاه فَرنَسة الشعوب المستقلة، وترضي وتكتقي بأقدار من الفرنسة تضمن لها استمرارية ولاء النخب الفرانكوفونية الحاكمة، وتحقق لها جملة من المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية في هذه البلدان في غمرة الصراع علي النفوذ ومواجهة العملاق الأنجلوفوني بقيادة أمريكا وبريطانيا. النمط الأول: استكمال سياسة الفرنسة: عبر هذا النمط عن نفسه في التدخلات السافرة لفرنسا في المشاريع والبرامج التعليمية للدول المستقلة عنها حديثاً في المغرب العربي، وحرصها علي فرض هيمنة اللغة الفرنسية في المؤسسات التعليمية والإدارية والاجتماعية المختلفة، ولقد وجدت فرنسا في النخب الفرانكوفونية الحاكمة خير معين علي تطبيق سياسة الفرنسة هذه، بحيث تحقق لها في عهد "الاستقلال" ما لم يتحقق لها في عهد "الاستعمار"، بل فاقه بكثير رغم الفارق الزمني بين العهدين (الجزائر : 1832 - 1962- تونس: 1881 - 1955- المغرب: 1912 - 1956). وفيما يلي صورة مختصرة لما آل إليه الوضع في تونس كمثال: غلق جامع الزيتونة وتصفية التعليم العربي الديني. امتزجت الزيتونة بتاريخ تونس، وحافظت علي قيمتها الإسلامية العربية حتي أعطت طابعاً قومياً لتونس بتأثير إسلامي وعربي؛ فامتد شعاعها العلمي طوال القرون، وتضافرت الدول بتونس علي الالتفاف حول هذا المعلم الثقافي العتيد عبر القرون، فما مرت حقبة إلا وقد أخذ في الازدهار رغم حالات الجزر والمد لكنه لم يفقد قيمته ومهمته. وحين جاء الاستعمار الذي ابتلع السيادة التونسية بصورة جعلته ينوي أن تكون فرنسية لكنه تعذر عليه ابتلاعها لأن تكون كما أراد، وشَرِقَ بجامع الزيتونة فجعل محط نظره تضعيفه ليصبح أثراً بعد عين، ولكن الثقافة الزيتونية أخذت في الانتشار. وصعب علي فرنسا القضاء عليه. استرجع جامع الزيتونة مكانته حتي إن عدد طلابه يوم إغلاقه في 82/4/6591/ قدر ب 27 ألفاً من الطلاب، موزعين علي كامل البلاد، إضافة إلي فرعين آخرين بالقطر الجزائري الشقيق.