كنا ننتظرها بعد صلاة العيد كمنتظر نصر اكتوبر بعد نكسة يونيو. لا شيء يدخل السعادة علي قلب طفل اكثر من العيدية. في الستينيات لو زهزهت لك الدنيا وأسعد الله زمانك، لاعطاك والدك او جدك او عمك او خالك ورقة بخمسة قروش "تدبح" موقع عليها من احمد زندو محافظ البنك المركزي وقتها. معني هذه العيدية دخولك احدي سينمات وسط البلد( التذكرة بثلاثة قروش ونصف) وإلتهام "تراو بتيت كوشون"او ثلاثة خنازير صغيرة، وقبل ان يذهب عقلك بعيدا باعتبار الخنزير حرام، أقول انه نوع رائع من الايس كريم بصوص المربي ، لا يزال يبيعه أحد محلات وسط البلد الشهيرة حتي الان وكان ثمن الطبق وقتها قرش صاغ ونصف واعتقد انه يباع الان بأكثر من 15 جنيها. ولو اجتمع الجد والوالد والخال والعم علي عيدية الخمسة قروش، يبقي هتصبح"متريش" ومعك 20 قرشا بالتمام والكمال تمكنك من ارتياد "سيمة"وسط البلد مستقلا تاكسي أول بنديرته 6 قروش كنوع من الالاطة. اليوم لو أعطيت ابنك خمسين جنيها عيدية، لو كان "متربيا" سيشكرك ويعتبرها فقط رسوم فتح العيدية، علي ان يليها الباقي" خمسينتين تانيين" لان الخمسين الاولي يدوبك لشحن الموبايل ، بالتأكيد ستترحم في تلك اللحظة علي ايام الستينيات، كانت طفولتنا بريئة وقنوعه وراضية بأقل القليل، لم تعرف الصواريخ او الشماريخ او الالعاب النارية التي تصدر اصواتا مزعجة كما لوكانت مفرقعات عاصفة الصحراء ، آخرنا كان "الحرب اطاليا" التي تعتبر دلوعة ومايصة في صوتها اذا قورنت بمفرقعات هذه الايام، المهم ان الخمسة قروش العيدية كانت تجعلك تعيش في بغددة،ولعل ما ساعد الناس في هذا الوقت علي الاستمتاع بالحياة، أن سقف الطموح كان محدودا. كان يمكنك مثلا منتصف الستينيات أن تحصي عدد السيارات الملاكي العابرة لميدان التحرير بسهولة ويسر ، وقبل انطلاق البث التليفزيوني عام 1960 كان وجود ثلاجة بالمنزل من علامات الستر(ده مستور عنده تلاجة). كانت محلات الوجبات السريعة لا تزيد عن الفول والطعمية والكشري وللحلو عربات الكسكسي او الرز بلبن. لم يعرف جيلنا ولله الحمد (الفاست فود) لا همبورجر ولا سوسيز ولاهوت او كولد دوج، وبالتالي لم نشهد الكانز إلا قريبا. آخرنا كان اسباتس ماركة الدبانة( مياة غازية قريبه جدا من عائلة الليمون صودا، الغريب ان رسمة للدبانة كانت تتصدر الزجاجة ومع ذلك كان "يقربعها" الناس دون أدني قرف (هما لاقيين غيرها) واذا كنت من العيال الروشين بمفهوم الستينيات ستشرب"راندا" برتقال وكانت صرعة عند طرحها. لم يعرف الناس سوي الكوز لا الكانز. ولا أنسي ابدا الضجة التي صاحبت قيام احدي شركات القطاع العام للحلويات بطرح نوع جديد من البسكويت اسمه" المدهش" وكان أول باكو بسكويت نعرفه في مصرمغطي بورق مفضض يعلوه ورق سلوفان، لم يكن هناك بسكويت مستورد او شيكولاته وارد الخارج، لم يحدث ذلك إلا عام 1974 مع بدء سياسة الانفتاح الاقتصادي، وكان تدشين هذه السياسة قد بدأ في رأيي بمشهد وقوف الناس طوابير لكي تشرب زجاجات ال" سفن اب وسبورت كولا" . كانت الناس راضية وقانعة بحياتها والكل عايش دون اي استفزاز من طبقة لأخري. قاتل الله ال SMS والايميل التي فرقت بين المرء وأهله وقطعت الارحام بعد أن جعلت الصلات كلها ديجيتال لا روح فيها. لو سألتوني عن الفترة التي أتمني أن اعيش فيها مرة أخري، سأقول انها أيام الله السعيدة من 10 رمضان 1973 وحتي نهاية ذلك العام مرورا بعيدي الفطروالنصراللذين تزامنا معا في 1973 وقتها قدمت قواتنا المسلحة لكل مصري أغلي عيدية .