في تلك السنوات كان الأفق القاهري ممتدا، مفتوحا، لم تزحمه الابراج بعد يتجمد زمننا الخاص في صور تستدعيها الذاكرة إما بقرار منا، أو بسبب مستثيرات مازال ادراك اسبابها عصيا علي الفهم، اقدم ما اراه من صور يمت إلي الافق، كانت الاسرة تسكن الطابق الاخير، الخامس، في بيت قديم بالقاهرة القديمة، حيث ماتزال ملامح المدينةالشرقية التي تأسست وفقا لرؤية يتداخل فيها العمراني بالديني، بالبيئي، بالموروث القديم، المركز منها جامع وجامعة الازهر اول ما وضع القائد جوهر الصقلي اساسه ليكون مركزا للدعوة الفاطمية الجديدة التي يعتقدها الغزاة الجدد الذين جاءوا إلي مصر من المغرب في القرن العاشر الميلادي، اول ما وضع حجر اساسه المسجد الجامع وقصر الخليفة الفاطمي الكبير، اي رمزي السلطتين الدينية والمدنية، الازهر تحول في القرن الثالث عشر إلي مركز للعالم الاسلامي. اصبح جامعة لدراسة العلوم الشرعية وعلوم الطبيعة والمجتمع ايضا، تدرس فيه جميع المذاهب الاسلامية، اساس الدراسة فيه حرية الاختيار والاعتدال، استمر كذلك حتي تم إضعافه منذ الستينيات باجراءات حكومية، وبالتالي تمدد التطرف والتشدد ، حتي الان مازال الازهر مركزا ثقافيا، حوله المكتبات القديمة التي تطبع منذ القرن التاسع عشر كتب الفقه والادب والعلوم كذلك باعة الكتب القديمة الذين كانوا يفترشون الرصيف ومن خلالهم عرفت القراءة من فوق سطح البيت البالغ ارتفاعه خمسة طوابق، كان ارتفاعا استثنائيا بمقاييس القاهرة القديمة في الاربعينيات والخمسينيات منه كنت اري مآذن الازهر ومسجد وضريح سيدنا الحسين، المركز الروحي للمصريين حيث من المفترض وجود رأس الحسين في المرقد الذي احضره الفاطميون من الشام قرب نهاية دولتهم في القرن الثالث عشر الميلادي. كان الافق القاهري مفتوحا لم يزدحم بعد بالابراج المرتفعة، إلي الغرب كان يمكنني رؤية اهرامات الجيزة وابوصير وسقارة، وفي الخريف كان الضوء اقل حدة وتلك الشفافية التي ماتزال تشكل خلفية ذاكرتي، غمامات خفيفة تستقبل ألوان الشمس الغاربة، تمثل فيها كل ألوان الطيف، حتي يغلب عليها اللون البنفسجي قبل اكتمال الليل الوافد، واختفاء الاهرامات التي تقع إلي الغرب، حيث بداية العالم الخفي، الاخر، الذي ترحل اليه ارواح الموتي، من الافق القاهري كنت اري حدود الابدية، ربما بدأ شعوري القوي بالوقت، بالزمن بالدهر بالرحيل المستمر من هنا، من طلتي تلك علي الافق المفتوح، الذي لم يعرف التلوث بعد كما هو الان. إلي الشرق جبل المقطم، إلي الجنوب تمتد الرؤية حتي الفسطاط متحف مفتوح للمآذن من مختلف العصور التي تعاقبت منذ الفتح العربي في منتصف القرن السابع الميلادي، تبدو ايضا بعض ابراج الكنائس القبطية إلي الجنوب، خاصة في منطقة الفسطاط. من المشاهد التي تنتمي إلي الافق حريق القاهرة في 62 يناير من عام 2591 الذي اندلع بتدبير مجهول حتي الان ليدمر وسط المدينة ويصبح اخطر حدث في الطريق الذي ادي إلي إسقاط النظام الملكي في يوليو من نفس العام بعد استيلاء الجيش علي السلطة وطرد الملك، رأيت النيران البرتقالية تتصاعد ألسنتها لتلتهم الأفق كان عمري سبع سنوات، وكنت اقف إلي جوار ابي الذي اذكر من عباراته جملتين: »النيران وصلت غمرة«. غمرة شمال القاهرة، وكان بها عمارة تعد الاعلي في الافق، فوقها اعلان ملون لمشروب غازي شهير بدأ يظهر بقوة خلال تلك الفترة، العمارة الان قزمة جدا، لا تبدو حتي لمن يقترب منها بعد ان احاطت بها الابراج قال ابي ايضا: »الطائرات ستطفي الحريق الكبير« واذا تذكرت الغارة الاسرائيلية علي القاهرة خلال حرب 8491 والتي تعد سماء القاهرة اقدم صورة في ذهني، قبلها لا اذكر شيئا علي الاطلاق، ثمة شظايا لا اثق من ورودها قبل أو بعد، لكن سماء القاهرة أوضح اللحظات المحفوظة في الذاكرة، من الافق بدأت علاقتي بالتاريخ القديم والاحداث الكبري المعاصرة، إلي السماء رفعت البصر طويلا لأتابع مرور الطائرات الحربية علي ارتفاع منخفض جدا يوم الثالث والعشرين من يوليو عندما استولي الضباط الاحرار علي السلطة. في الدرب المغلق، الذي لم يكن يؤدي إلي درب آخر، كنت ألعب طفلا آمنا، غير ان قصر المسافر خانة الذي وصلنا من القاهرة العثمانية كان مؤججا لخيالي بغموضه، بما يروي عن سكن العفاريت فيه، في الدرب تعرف البيوت بأسماء ملاكها أو قاطنيها من الاحياء والاموات، وفي الدرب حياة اخري غير ظاهرة، اسماء العفاريت، والعفريت مخلوق غامض يظهر فجأة في هيئات غير مألوفة ، كأن يكون نصفه حيوانا والنصف الاخر انسان، واحيانا يكون العفريت روحا هائمة لمن مات مقتولا وهذا يمكن ان يلحق الاذي. للمكان عالم وقسمات ظاهرة، واخري خفية، طبعا مع التقدم وانتشار الكهرباء في اصغر الازقة ، وسهر المقاهي حتي الفجر تتواري العفاريت ويتراجع ، يختفي العالم الخفي، هذان العالمان ربما كانا وراء تصوري المستمر ان لكل ظاهر آخر خفيا، كل ما يبدو يخفي شيئا، حتي الانسان، من هنا تقف عوالم بعض رواياتي علي حدود الواقع المحسوس والعالم الخفي غير المنظور، كما يبدو ذلك واضحا في »كتاب التجليات« و»وقائع حارة الزعفراني« و»شطح المدينة« و»متون الاهرام«، و»دفاتر التدوين«. لكل مكان ذاكرة واقوي عناصر حفظ الذاكرة العمارة، آخر ما يبقي من الانسان البنيان، القاهرة القديمة منظومة من تداعي الذكريات القائمة من الازمنة التي تجمدت في الحجارة المرصوصة المنقوشة، اينما ولي البصر لابد ان يقع علي مقرنص، أو زخارف حاوية لرموز قديمة من عصور مندثرة »مثل الدائرة التي ترمز إلي الكون، الشكل الكامل عند المصريين القدماء، والصوفية المحدثين، أو المثلث رمز الصعود والتلاشي عند النقطة النهائية في القمة، أو الخط رمز الاستمرارية المتتابعة لتجاور النقاط، الحروف المحفورة علي الجدران لايات قرآنية، نقشها فنانون مجهولون لا نعرف اسماءهم، جاءوا وعملوا وابدعوا ورحلوا بدون ان يتركوا توقيعا أو اسما أو اشارة تدل عليهم إلا فيما ندر، ليس مثل الزخارف التي تزين المساجد ودور العبادة كلها أوعية لحفظ الرموز والاشارات المتوارثة. ذاكرة المكان اثرت ذاكرتي البصرية، كذلك جميع حواسي. خاصة الشم، روائح البخور، والعطور المعتقة المميزة لدور العبادة، استمرارية حضور العطور التي كانت من الرموز الاساسية للاله الخفي، تدل عليه ولا تفسره، تشير اليه ولا تظهره، من اجلها رحل المصريون إلي المحيط الهندي، إلي القرن الافريقي إلي بلاد العرب الجنوبية، ليعودوا باللبان والبخور إلي معابد طيبة وابيدوس ومنف. العطور من اقوي مستثيرات ذاكرتي المتصلة بالمساجد واضرحة الاولياء الصالحين ربما كانت كثافة الذاكرة في القاهرة القديمة وراء تلك الاسئلة التي رحت اطرحها علي نفسي منذ الطفولة. »من مر، من عبر من هنا؟« »من اقام قبلنا في هذه الدار«. من ديوان النثر العربي »أبقي الجروح مضضا جرح الآثام« ابن المقفع