الاثنين: قصدني صديق في مشاركته استقبال ضيف امريكي يزور القاهرة للمرة الأولي، وفي منتصف جولاتهما السياحية التي استغرقت اياما، اراد صديقي أن يوسع دائرة الحضور ليخفف الجلسة او كما يقولون "يطّري القعدة"، ويقدمه الي نماذج من أصدقائه. وكان اللقاء. الرجل شارف علي التسعين من عمره استاذ فلسفة متقاعد، بصحبته ابنته الطبيبة الشابة. لا تلحظ عليه علامات الشيخوخة المألوفة لدينا فلا تقوس في الظهر، ولا تثاقل أو ترهل في الحركة، أو رعشة يد، لاشيء سوي بعض من ضعف السمع يستعين عليه بسماعة أذن. اما سلامته الذهنية فما شاء الله اللهم لا حسد. وكان السؤال التقليدي عن انطباعاته عما شاهده من آثار ومتاحف ونهضة لا أظن انه كان يتوقعها. لكن ماذا تفعل مع مثل هذا الضيف "الملعون" الذي تمرد علي سيارة صديقي، وأراد ان يسير علي قدميه؟ تخلص منه بصنعة لطافة وتسلل من قبضته ليتجول "بمزاجه" في الشوارع ليري مايريد هو أن يراه،لا مايراد له ان يراه. "أردت أن أري الحاضر.. أما التاريخ فهو موجود ومصور في الكتب "! هكذا فسر لي الضيف الماكر لماذا تحرر من صحبة الصديق المصري. مشكلتنا حين نسأل هذا السؤال الساذج السخيف اننا نتوقع انبهارا وإعجاباً، كي تنتفخ اوداجنا زهوا بأجدادنا علي مر العصور. لم يجهد الرجل نفسه كثيرا في مجاملتنا،انسابت كلماته كالرصاص المطاطي، حكي لنا كيف انه يحسدنا نحن المصريين علي رشاقتنا وقدراتنا البهلوانية في تخطي حفر الشوارع ومطباتها وإشغالات الأرصفة وتلافي الاصطدام بالسيارات في نهر الشارع. وكيف اصطدمت رأسه بالغسيل المتدلي من شرفة دور أرضي، وكيف تعثرت قدماه في اقفاص بيع الخضر والخبز المنتشرة علي حواف الرصيف. كان يحكي بطريقة ساخرة عن تجربة نادرة في حياته، مغامرة طريفة لم يحسب لها حساباً، وكأنه في بلاد العجائب. بالنسبة لنا تلك مشاهد عادية نمر عليها كل يوم فلا تلفت أنظارنا، اصبحت جزءا من نسيج اللوحة لا يمكن انتزاعه منها، لم تعد تلك الصور تصدم عيوننا، لم نعد نستنكفها، استسلمنا لعيوبنا وأصبحت "عادي يعني" و"هذا ما ألفينا عليه آباءنا ". ثم جاءت الطامة الكبري حين أتي بحديثه عند زيارته للقاهرة الفاطمية واحيائها الشعبية خلف مسجد الحسين وهذا المشهد الذي لن ينساه طيلة حياته كما قال. سألني عن ذلك الشخص »العتُّل« الذي يرتدي طاقية وجلباباً ملطخاً ويداه ملوثتان ويقف علي منصة عالية أمام منضدة خشبية ذات أرجل عالية ويمسك بساطور يُقطَّع عليه اشياء لايدري هويتها، وأمامه في الأسفل رجال كُثر وشباب يمدون ايديهم اليه و كأنهم يستجدونه أو يبتهلون اليه! سألني: من هذا؟ وهل له سطوة دينية أو سلطة روحية؟ مامعني التحاؤه وارتداؤه للطاقية ووقوفه بجوار مسجد كبير؟ ولماذا يتضرع اليه هؤلاء الناس؟ أعملت ذهني كثيرا لأفهم عم يتحدث. سارع بإخراج مفكرته من جيبه لينطق لي اسم هذا الشيء أو "القربان" الذي يوزعه هذا الرجل علي هؤلاء المساكين. لقد كتبه بحروف انجليزية ليستفهم عنه فيما بعد. آاه اسمه " لاخ متراس "!!! انفجرت في الضحك انا وصديقي، لكنه كان ضحكا كالبكاء. لم تخفف عني طريقة نطقه الهزلية »للحمة الراس«، ولا استيعابي لحقيقة ان " اللخمة " في رأسه هو، لاختلاف الثقافات والمنظور الاجتماعي للأمور. أخذت اشرح له ان لحمة الرأس نوع من الوجبات الشعبية الرخيصة نسبيا مقارنة باللحم العادي ومغذية في نفس الوقت و لذلك يقبل عليها عمال الورش المجاورة. كانت صدمته كبيرة حين علم ان هذا "الشيء" يؤكل لا لموقعه في الذبيحة كما فهم من كلامي،ولكن لقذارة المشهد ولوقوف الرجل في الشارع هكذا كاشفا بضاعته لكل صنوف التلوث. وكان سؤاله الصادم التالي هو: وهل لهذا النوع من الغذاء أي اثر جنسي علي الرجال؟ وإلا لماذا كان كل زبائنه منهم ولم تظهر سيدة واحدة فيهم؟ أسقط في يدي وكان لابد من الاستعانة بالصديق كي يشرح له ان عمال الورش في الغالب من الرجال، وأنهم لايحصلون علي ساعة للغداء في منتصف يوم العمل ليتفرغوا فيها للطعام كما يحدث في بلاده، ومن ثم فإن من رأيتهم هم مجرد مندوبين عن زملائهم ينوبون عنهم في شراء الطعام. ووووو تلفتت حولي اتلمس حجة اتشاغل بها عنهما، وتذكرت فجأة موعدا هاما لايجب ان يفوتني وانصرفت قبل تنتقل لخمة الراس إليّ. احكي ياشهرزاد الثلاثاء: البعض منا لا يرضيه حكي شهرزاد، وغضبان لإفلاتها من قبضة مسرور السياف. تحامل عليها اجدادنا قبل قرن مضي ثم تحاملنا عليها نحن. وتجددت المطالبة بمصادرة إحدي طبعات " الف ليلة وليلة " في حين انه واحد من عيون كتب التراث ثم انقذها النائب العام المثقف المحترم عبد المجيد محمود. لاحظ ان حياتنا الثقافية اصبحت تعيش حالة من الضبابية ولا تخلو مناقشاتنا من قضايا قتلت بحثا حول حدود حرية الابداع و القيود علي براح الخيال وتشابكهما المزمن مع قيم المجتمع الأخلاقية والدينية. وبدلا من الانتقال الي موضوعات وقضايا جديدة تماشيا مع تطور الزمن والمجتمع نجد انفسنا غارقين في لجاجة غريبة، فاستيقظت المناقشات من جديد حول قضايا الحسبة بمناسبة وفاة المفكر الراحل نصر حامد ابو زيد، وهاهوالدكتور يوسف زيدان الروائي صاحب " عزازيل " الفائزة بجائزة البوكر العربية يمثل امام محكمة امن الدولة العليا بتهمة ازدراء الأديان. القاسم المشترك بين هذه القضايا جميعا انها عرضت أو معروضة بالفعل امام القضاء، ومنها ما كنا نظن ان امره قد حسم منذ زمن طويل مثل قضية الف ليلة وليلة. ذكرني حالنا هذا بكتاب صدر في العام الماضي للدكتور رمسيس عوض بعنوان الأدب الانجليزي والأمريكي امام المحاكم. الكتاب يستعرض المعارك القضائية التي انخرط فيها كل من الروائي البريطاني د.ه. لورنس والأمريكي هنري ميلر وكيف تعرض عملان إبداعيان- بصرف النظر عن قيمتهما الفنية- للمرمطة والمصادرة مما اجبر البعض علي التحايل وتزييف الطبعات لتسويقهما بين الجمهور. الرواية الأولي هي "عشيق الليدي تشاترلي" للورنس، والثانية هي " مدار السرطان" لميلر. الروايتان الإنجليزية والأمريكية اتُهمتا بالبذاءة و فحش الألفاظ والاصطدام بما تواضع المجتمع عليه من قيم اخلاقية. وجاء القضاة لينتصروا للابداع وحرية الرأي والتعبير. الطريف في الأمر ان الكاتب البريطاني د.ه. لورنس كان قد كتب ثلاث مخطوطات للرواية، خلت الأولي والثانية من الألفاظ الفاحشة بينما تميزت الأخيرة باستخدام مفردات جنسية فاضحة لا يسمح بها المجتمع المتحضر وبسبب هذا الفحش المتعمد من جانب المؤلف وتحديه المحسوب للمواضعات الأخلاقية والاجتماعية السائدة في مجتمعه والشائعة حتي في الحضارة المادية الصناعية الحديثة. صدمت الرواية الكثيرين وتم منع طبعها وقام ناشر ايطالي بطبعها في فلورنسا وتهريبها الي داخل الأراضي الإنجليزية. بالطبع فالممنوع مرغوب وكلما ضاق الخناق علي أحد الأعمال الإبداعية، تفنن المهتمون به في تداوله سراً. اتركوا العنان لشهرزاد وكل شهرزاد بدلا من ان يتناقل الناس حكاياتها همسا. احكي ياشهرزاد. صحبة مع الألم الأربعاء: اليوم سخر مني طبيبي. ليس من عادته ان يستهين بمرضاه، ولا من واجباته ان يستخف بشكواهم. "انت مركزة جدا مع الألم" ! هكذا علق علي طريقة وصفي لأعراض الشكوي التي انقلها له. انه لا يصدق انني استطيع التمييز بين أنواع الألم مهما تشابهت. ولايتصور أنني استطيع إحالة كل نوع منها الي مرض معين أو مسبب معين. ومن الطبيعي انه يرفض مقولة " الإنسان طبيب نفسه ". معذور لو اصبح كل مريض طبيب نفسه، فماذا يفعل الأطباء إذن؟ ضاق الطبيب من الاحتمالات التي ذكرتها امامه وقال: لعله كذا؟! _ ابدا.. انه ألم من نوع خاص، جديد، ليس هو ماألفته من قبل. لم يدر بخلدي انه يتهكم علي كلامي. بإصرار الأغبياء أمعنت في وصف طبيعة الألم الذي أعاني منه. هناك ماهو مثل الوخز، وهناك ماهو مثل الطعن، وهناك ما هو مثل مس الكهرباء، وهناك ماهو مثل قطع المنشار وهذا يختلف عن القطع بحد السكين و............... استغاث مني طبيبي، اكتفي من أوصافي التفصيلية ولكي ينهي المسألة حسم الكلام قائلا: دعينا ننتظر نتيجة الأشعة والرنين المغناطيسي والتحاليل. عاودته بعد اسبوع ومعي كل الفحوص المطلوبة.. ابتسم ابتسامة غامضة لم اتبين فحواها، انظراليه بقلق كالتلميذ في انتظار نتيجة الامتحان.. _ إنت صح !!! _ هيييييه.. صدقتني؟ _ تعجب الرجل من بلاهتي. فرحة انا بصدق توجساتي رغم انها أقسي كثيرا مما تنبأ به طبيبي. قلت له: ألا تعرف انني و الألم صحبة؟ الألم في حد ذاته نعمة. هو دليل الحياة.. مؤشر علي تفاعل أعضاء البدن.. انه جرس إنذار. ويجب ان يحترم المرء ألمه ويأبه له، ألا تطالبوننا انتم الأطباء احيانا بالتعايش مع الألم ؟ كيف اتعايش مع شيء دون ان اصاحبه ؟حتي الألم النفسي دليل علي يقظة الشعور وعدم التبلد أو التناحة. ومع انني اخشي من الألم وأشفق علي نفسي منه لكنني احمد الله علي شعوري به، وكثيرا ما اتحمله في صمت حرجا من الجهر به. في إحدي المرات دخلت محلا ووجدت صاحبه متجهماً لا يكاد ينظر في وجهي. يرد علي كلامي بالقطارة. اغتظت وقلت لنفسي ماهذه الجليطة؟ لو كان مجرد بائع بالمحل لقلت انه لايهتم بكسب الزبون لكنني أعرف انه صاحب العمل. باغته بسؤالي: انت مكشر كده ليه؟ أصابه سؤالي بالإحراج وانفرجت قسماته قليلا وإذا به يعترف انه يعاني من آلام لاتحتمل في الظهر لكنه مضطر للوقوف طيلة الوقت للإشراف علي العمال والموظفين.كم خجلت من نفسي، اعتذرت له عما بدر مني وتمنيت له الشفاء. وحين خلوت الي نفسي وتأملت الموقف لمت نفسي كثيرا فأنا مثله اتحامل علي نفسي كي لا أكشف ألمي.. فلست ممن يحبون المتاجرة بأمراضهم.. ولابد انني ابدو مثله.. ولابد ان الناس يتساءلون عن سر تجهمي لكنهم لا يتبجحون مثلما فعلت معه. ساعتها تذكرت قول الشاعر العربي ابو الطيب المتنبي "لو رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن ان الليث يبتسم" وقلت العكس هو مايحدث معنا نحن اصحاب الألم، فلو رأيتني ابتسم.. فلابد انني اعض علي نواجذي لأخفي ألمي.