أخطر تنظيم سري في مصر فشلت الحكومات المتعاقبة منذ ثورة يوليو وحتي الحكومة الذكية في تحديد أعضائه المنتشرين في كل تكويناته الفئوية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، فشلت كل الأجهزة في تحديد هوية هذا التنظيم وأهدافه، ومبادئه وخططه المستقبلية، ولكن جميع الحكومات تعرف خطورته وتخشاه وتدفع له لشراء صمته وهدوئه علي أمل ان تتمكن يوما من الأيام من معرفته وتحديد حجمه والطريقة المثلي في التعامل معه. ان تنظيم »محدودي الدخل« غير المحظور والذي تفوق علي كل التنظيمات بخلاياها العنقودية وقياداتها السرية، فالحكومة تخشاه وتبذل جهودها من أجل ضربه بتصعيده لأعلي ليصبح أعضاؤه من متوسطي أو مرتفعي الدخل فيرتاحون ويريحون الحكومة، ولكن لأنها لا تعرفه فإن كل ما تدفعه له يضل طريقه ليظل محدودو الدخل في فقرهم ويزداد التنظيم عددا وتتزايد خطورته. المشكلة ان الحكومات المتعاقبة آثرت أن تتعامل مع هذا التنظيم من وراء حجاب وبطريقة الالتفاف ومن خلال المسكنات التي لا تصل إلي حل جذري للمشكلة، وكأنها تتعامل بدافع الكسوف والشعور بالتقصير أو ربما بسبب الخوف علي مقاعدها من قوة التنظيم وخطورته، وأعتقد ان الحكومة الحالية لا ينقصها الخبرة ولا الخبراء مثلها مثل الحكومة السابقة ولكنها تخشي من الثمن الباهظ للإصلاح الجذري فتبتعد عن الجراحات وتفضيل المسكنات التي لا توصل المريض إلي الشفاء ولا تتركه يموت، وهناك طريقتان يمكن للحكومة ان تسير في أي منهما لكي تصل في قضية الدعم إلي حلول لم تصل إليها من قبل. الطريقة الأولي التي قد تكون صعبة ومخيفة هي الإلغاء الكامل للدعم وتوجيه قيمته المادية لإصلاح مستوي الأجور بحيث يستطيع الموظف الصغير ان يصل إلي السلعة الجيدة ويدفع ثمنها بدلا من الحصول علي سلع سيئة لا يستفيد منها ولاتزيد اقتصادنا إلا خسارة واضطرابا. ومحاذير هذه الطريقة وجود عدد كبير من الفقراء من عمال اليومية والموسميين أو كبار السن الذين لا يعملون ولايملكون مصدرا للرزق يجعلهم قادرين علي مجاراة أسعار السوق، ولكن تستطيع الحكومة ان تحصي كل هذه الحالات وتدبر الطرق الأنسب لتوفير الحياة الكريمة لهم وفي هذه الحالة ستسد جميع الفتحات التي يتسرب منها الدعم ويصبح هناك اتساق في النظام الاقتصادي للدولة بدلا من سياسة المسكنات وإبقاء المريض بين الحياة والموت. الطريقة الثانية: تتمثل في استمرار الدعم، لكن لن تحميه البطاقات الذكية، ولن تفيد في تحديد أعضاء التنظيم، ولكن الذي يفيد هو السياسات الذكية المصاحبة للدعم، ومن هذه السياسات الذكية مراعاة أسعار السلع الموازية في السوق فليس من المعقول ان تطارد الحكومة من يحصل علي كيس فول أو مكرونة أو أرز أو سكر أو دقيق لنتأكد من ان استخدامه الاستخدام الصحيح ولكنها تستطيع ان تجبره علي هذا الاستخدام الصحيح إذا جعلت سعر كيلو العلف أقل من سعر كيلو الدقيق أو المكرونة.. بهذه الطريقة فقط ستتأكد الحكومة أن سلعها الغذائية ستذهب إلي الاستخدام الصحيح، كما سيستفيد الاقتصاد القومي من زيادة الثروة الحيوانية والسيطرة علي أسعار اللحوم التي ستصب في النهاية في مصلحة المواطن سواء كان من أعضاء التنظيم »محدودي الدخل« أو غيره من خارج التنظيم! الجوانب الخدمية من الدعم لن تذهب هي الأخري إلي مستحقيها بدون إصلاح سياسة الأجور، فإذا كانت الحكومة تبني المزيد من المدارس لمحدودي الدخل بدون رفع مرتبات المدرسين فسيتم الالتفاف علي المجانية بظاهرة الدروس الخصوصية التي استفحلت وجعلت المجانية سرابا وحولت المدارس إلي سجون يذهب إليها الطلاب مضطرين ويعتبرون ما يقضونه فيها وقتا ضائعا أو عقوبة! وستبني الحكومة المزيد من المستشفيات ولكن تدني مرتبات الأطباء وأعضاء هيئة التمريض وموظفي المستشفيات تحول مستشفيات الحكومة إلي أماكن مهجورة ومصائد لمحدودي الدخل سيدخلونها مرضي ويخرجون منها أمواتا. ونستطيع ان نقول هذا عن سائر الخدمات: المواصلات والمرافق الأخري كالإسكان الشعبي وغيره، المشكلة الأساسية في مصر هي الفجوة الضخمة بين الأجور وبين مطالب الحياة التي تجعل الموظفين في كل هذه المرافق يعملون بلا اهتمام وبلا ضمير، ويفسدون طبخة الحكومة التي تعدها لمحدودي الدخل وتزداد مشكلات الاقتصاد القومي ومشكلات محدودي الدخل علي السواء وتكتفي كل حكومة جديدة مثل سابقتها بالشعار التاريخي.. وستعمل حكومتي علي حماية محدودي الدخل وتضع المواطن البسيط في مقدمة أولوياتها وهو شعار لا يكلفها شيئا طالما أمامها صفحات الصحف وساعات الإذاعة والتليفزيون المفتوحة لتصريحات الوزراء التي تتوالي دون انقطاع ولا نجد لها اثرا في الشارع وينبغي علي الحكومة الديجيتال ان تتصرف بشكل مختلف وتعمل بناء علي قواعد بيانات جيدة وتعالج المشكلات بالتوازي وبالجملة وليس بالقطاعي كما حدث طوال نصف قرن تكدست خلاله أطنان التصريحات بينما تسربت أطنان من السلع إلي غير مستحقيها وتبددت الملايين في أجهزة خدمية لم تقم بدورها المطلوب حتي الآن. الدعم مشكلة لن تحلها البطاقات الذكية في معالجة المشاكل المتشابكة دفعة واحدة، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإغلاق مسارب الدعم وملياراته المهدرة. أقول قولي هذا بعد ان جربت الحكومة الكوبونات في عصر الاشتراكية والبطاقات التمويني ومحلات الفول والطعمية والقطاع العام في زمن الانفتاح الاقتصادي.. وأخيرا البطاقات الذكية في زمن سياسة السوق والحكومة الالكترونية!