».. الوهم جميل، والأمل جميل، ولولا الوهم والأمل لثقلت خطي الحياة!« الاثنين: يحلو لي وأنا أسير في الشارع أن أرقب الناس، كل منهم في سبيل، المتعجل والمتمهل، المبتسم والمكتئب، الجميل والقبيح، الفتي والشيخ، كل له غرض يسعي اليه، الناس تراهم أشباها من حيث أنهم هياكل بشرية ولكنك تراهم إذا دخلت في قلوبهم أشتاتا، وأنت إذ ترقبهم، لا ترقب خطاهم وكيف يسيرون، ولكنك تحاول أن تدخل في عقولهم وقلوبهم، وما خطاهم إلا الدليل، وما هو مرتسم علي وجوههم وشفاهم الا المدخل، وما حركاتهم وما يصدر عنهم من قول أو فعل إلا الطريق الي دهاليز قلوبهم، ومجاهلها التي لا حد لها، نعم.. إن الناس ليسوا الهياكل والحركات الظاهرة، ولكنهم ما يفكرون فيه، والدوافع التي تجعلهم يسيرون في هذا الاتجاه دون ذلك، هذه الفتاة المتعجلة الباسمة الطروب، لا تكاد الدنيا تسع فرحتها، وابتسامة فؤادها، وهذه المرأة المتجهمة الكئيبة، وهذا الشاب يكاد يغني طربا، ويقفز مرحا، يخيل اليه ان الدنيا بكل ما فيها من بهجة لا تساوي مثقالا مما يملأ قلبه من بهجة، وهذا الرجل يكاد ثقل الكآبة المرتسمة علي وجهه يضيف الي عمره عشرات السنين، فإذا هو شيخ وان كان لم يجاوز بعد مرحلة الشباب، وهذه السيدة أكلت منها الأيام ما أكلت، وجارت عليها السنوات ما جارت، ولكنها تأبي إلا أن تتمسك بأذيال الشباب، الميني جيب والمساحيق، والصوت الناعس كأنه النداء، وهذا الشيخ يتلعثم في لسانه ومشيته، الموكب يسبقه، وهو يحاول اللحاق به، لا يسلم بالهزيمة، وهي أمام الجميع حقيقة مؤكدة، ولكنها أمامه أمل مشرق للنصر، مشرق للحب، من يدري كل يغني علي ليلاه، كل له همه ومتعته، له دنياه! حركة دائبة في الشارع لا تنتهي، أشباه من الناس وأشتات، إختلفت الغايات والمقاصد، واختلف السعي والهدف، وارتسم كل ذلك علي الوجوه، هكذا تجري الحياة في طريقها، تعطي الناس الوهم والأمل، وبين الوهم والأمل تسير الحياة، الوهم جميل والأمل جميل، ولولا الوهم والأمل لثقلت خطي الحياة، ولم يكن في هذا الشارع ولا في أي شارع آخر، مثل هذه الحركة التي لا تتوقف! مأساة شاب!! الثلاثاء: زارني اليوم شاب قال أن الحياة تخزله، تطارده، تكرهه، حتي أبوه يسئ معاملته، ويميز أخوته عليه، إن المرارة التي في نفسه لا مثيل لها، والفشل الذي صاحبه في حياته يتضاعف، وكلما تضاعف زادت كراهيته للناس، لأهله والأقربين منه، وايضا لغير أهله، والبعيدين عنه، لقد ترك أهله في الصعيد واقام في القاهرة عند قريبة له، أبدت شيئا من العطف عليه، فارتاح بعض الشيء، وأحس عندها بانسانيته، غير أنها بعد فترة غيرت معاملتها له، وشيئا فشيئا أصبح خادما في البيت، وتعثر في دراسته، رسب مرة بعد مرة، وكل الناس يلومونه، ولكنهم لا يعرفون الظروف التي يعيش فيها! وبعد أن روي لي الشاب قصته بكل تفاصيلها، سألني: ألست مظلوما، ومن الظالم؟ قلت له: اذا صحت روايتك، كنت فعلا مظلوما بل كنت ضحية، ولكنني لم أسمع القصة من الطرف الآخر، قال: أي طرف؟ قلت: أهلك وذووك.. أسرتك، قال: ولنفرض أنني مخطيء، أليس من واجبهم أن يحتملوني ويقوموني، ولمن ألجأ، إنني أشعر أنهم غرسوا في نفسي بذور الجريمة، إن كراهيتي لهم إنعكست علي الناس، علي المجتمع، أصبحت أكرهه وأكرههم، أصبحت أشعر أنهم مسئولون أيضا عن تشريدي اذا تشردت وعن جريمتي اذا أجرمت، والا فمن تراه مسئولا؟ وشعرت ان المرارة في نفسه بسبب تمييز أبيه في المعاملة بينه وبين إخوته، هي المسئولة عن كل ما أصابه من ضياع ويتم أو ما يشبه اليتم، فإن المحروم من العطف يتيم، وان كان أبواه علي قيد الحياة، فيلحاذر الآباء والأمهات التمييز في المعاملة بين الأبناء، قد يكون بينهم من هو أطيب خلقا وأكثر مهارة، وأحلي حديثا وأبرع تصرفا وذكاء، ولكن الصحيح ايضا، أن مثل هذا الابن أو البنت ربما لا يكون في حاجة الي العطف والحنان قدر حاجة الابن أو البنت التي هي أقل ذكاء أو أسوأ تصرفا، فلا يكون الابوان عليها مع الزمن، والافضل ان يكونا معها علي الزمن. ان البذور التي تنمو في داخل الاولاد في سنواتهم الاولي، هي المسئولة عنهم حينما ينضجون، ويصبحون رجالا، والجرح الذي يصيب النفس، وهي طرية العود أشد ايلاما وعذابا، وقلما تمحوه الأيام، ولقد تلقيت منذ فترة رسالة من فتاة شكت فيها من سوء معاملة أبيها لها، ثم كتبت لي أن أباها أحسن معاملتها بعد ذلك، ولكنها اعترفت أنها لا تستطيع أن تمحو من ذاكرتها الأثر السيء الذي تركته معاملته السابقة لها، وقالت أنها حاولت أن تصفح عنه فلم تستطع، فإن شبح الآلام القديمة لا يزال ماثلا أمامها! أيام في الاسكندرية الأربعاء: أمضيت بضعة أيام في الإسكندرية.. كانت هادئة، الشمس مشرقة، والنسيم مشرب بشيء من البرودة، البحر ناعم في سلام، لا زوابع ولا عواصف ولا نوات، واليوم حيث تبلغ أزمة الشرق الأوسط أقصاها، وحيث تضطرب في الأممالمتحدة، وفي عواصم العالم، الزوابع والعواصف والنوات، نظرت الي البحر الناعم والي المدينة الجميلة المستسلمة لاحضانه، كأنها العذراء لم يمسسها بشر، وكأنها روحانية في خلودها وعراقتها، زاملت التاريخ، أخذت منه وأعطته، أعطته اكثر مما أخذت، إنها صورة رائعة لمصر الرائعة، لم تمارس في تاريخها الطويل العدوان، ولم تعرفه، اعتدي عليها المعتدون، فردتهم في كبرياء واباء، واحتفظت بحريتها وهيبتها، كانت تقف صامدة في كبرياء تزود عن نفسها، دون أن تلين، ترفع غصن الزيتون لمن يريد السلام، وترفع مع غصن الزيتون السلاح لمن يريد الحرب، تلك المزواجة التي حيرت الغزاة والطامعين، عبر التاريخ، فظنوا الهدوء فيها ضعفا، والثورة فيها إنتفاضة مؤقته، وما عرفوا ولن يعرفوا لأن هذا سرها، إن الهدوء والثورة ملتحمان في نسيج واحد، وأن حب السلام والدفاع عن الحق، والنفور من الظلم كيان واحد. هذه مصر شبيهة ببحرها، الذي رأيته ناعما، والدنيا من حوله ثائرة، شبيهة بشعبها الهاديء المطمئن الواثق المتحفز ، العميق كالبحر لأنه يمثل حضارة خمسة آلاف سنة، البعيدالمنال كالنسر، لأنه طار في أجواء العالم، حينما كان العالم يحبو كالطفل الوليد! ليس هذا شعرا، ولكنه ايمان، فإن تاريخ هذا الوطن، إمتزج فيه الشعر بالإيمان، امتزجت فيه الروح باليقين، ليس هذا تهويلا، ولكنه حقيقة أملاها التاريخ، ورسالة حملها الشعب في أحشائه منذ كان طفلا في فجر التاريخ. ونظرت الي البحر مرة ومرات، واستحضرت في الخاطر الأهرامات وهي جاثية عند حافة الزمن، وحافة الصحراء، تروي تاريخ القوة مأخوذة من الروح، وتاريخ الروح هادية الي الحب والسلام، والي المجد والعظمة والكبرياء. تلك كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء، قصم الله ظهره. الإنسان.. مثل العملة! الخميس: لكل منا قيمة اسمية وقيمة فعلية مثل العملة، والقيمة الاسمية هي القيمة المرسومة علي الوجه، والمطبوعة علي المرتب الذي يتقاضاه، والعمل الذي يقوم به والمنصب الذي آلت اليه سلطاته، والقيمة الفعلية هي ما لديه من هبات وملكات وما حصل عليه من علم ووهب من عقل وذكاء. والقيمة الاسمية قيمة مؤقتة تزول في اي وقت من الاوقات، حينما يذهب المنصب او السلطة أو النفوذ. في حين ان القيمة الفعلية قائمة ولا تزول. المرأة مثلا حينما تستخدم الماكياج من كل الانواع، تبدو في الشارع فتنة رائعة، وفي المكتب لافتة للانظار وعلي المسرح او الشاشة ملكة من ملكات الجمال، فاذا تجردت من الزينة والاصباغ، اصبحت شوهاء لا تلتفت اليها الانظار، في الحالة الاولي لها قيمة اسمية وفي الحالة الثانية لها قيمة فعلية، تماما كالعملة تشتري بأكثر من قيمتها، فاذا ارتدت الي حقيقتها تقدر بأقل مما اشتريت به، الممثل علي المسرح يأخذ قيمته الاسمية من ذاته وفنه، فاذا تقدم في السن أو فقد موهبته، في التمثيل، ومركزه بين الجمهور عادت اليه قيمته الفعلية، انسان عادي لا يجد من كانوا يصفقون له، ويهتفون باسمه!. الحب.. بل العواطف جميعها، أنها ايضا ذات قيمتين اسمية وفعلية، العاطفة الاسمية لها كل سمات العاطفة ومواصفاتها، الناس جميعا يرونها ويقيسونها ويحكمون عليها، انها العاطفة الحقيقية. لماذا العواطف وحدها، الفضائل والرذائل ايضا، كل منها له قيمة اسمية وفعلية، الشجاعة والوطنية والمروءة والوفاء، لكل منها قيمة اسمية تجدها عندما يتظاهر الانسان بالشجاعة وعندما يتظاهر بالوطنية. وعندما يتظاهر بالمروءة والوفاء، فاذا جاءت التجربة، ونفت الزيف عن الواقع، وتبين اين يوجد الشجاع المقدام واين يوجد الجبان، واين يوجد الذي يضحي من اجل الوطن، واين يوجد الوطني الذي يتاجر بمصلحة الوطن، واين توجد المروءة والوفاء، واين توجد الخسة ويوجد اللؤم والغدر؟. لكل شيء في الدنيا قيمة اسمية وفعلية، وكل منا له قيمتان اسمية وفعلية، فقد يأخذ بالقيمة الاسمية اكثر مما يستحق، وقد يأخذ بالقيمة الفعلية اكثر مما يستحق، ولكن تظل الحقيقة الكبري خالدة خلود الحياة.، فالبقاء للقيمة الفعلية، اما القيمة الاسمية، فستار سرعان ما يتمزق!!. رغم الفراق.. الجمعة: الأديبة الموهوبة، والكاتبه الرقيقة نور عبدالمجيد، أسعدتني كثيرا بإهدائها لي روايتها الثالثة »رغم الفراق«، ولأن نور إنسانة حساسة ومرهفة المشاعر، فإنها تميل دائما في كتاباتها الي الرومانسية، أو تناول النواحي الانسانية، فهي في حياتها الخاصة تعيش كأنها بسمة علي شفتي الزمن، رقيقة عذبة، قلما تسأل أحدا لنفسها، وإن كانت قد تسأل الكثيرين لغيرها، ما يسعدها في الحياة أن تقضي حاجة سائل، أو تواسي مريضا، أو تعزي مصابا، أو تكون سببا في رسم الابتسامة والفرحة علي وجه حزين ان كل غايتها في الحياة أن تسعد الآخرين«. وقد جاءت روايتها الجديدة »رغم الفراق« تعبيرا عن كل هذه الصفات الجميلة، وانعكاسا لشخصيتها الرقيقة المحبوبة، انها تتحدث عن طفلة يتيمة من المنصورة، قامت إحدي العائلات الثرية بتبنيها وتربيتها، فتعلقت بها سيدة الأسرة واحبتها بجنون، ولكن بعد أن أنجبت الأم مولودا، وبعد مرور السنين كبر المولود وأصبح شابا، ووقع في حب الفتاة اليتيمة، فغضبت الأم وقررت إبعاد الفتاة اليتيمة التي عاشت معهم العمر، ونعمت بالحب والحنان، خارج حياة الأسرة. وتحولت حياة »عايدة« في لحظة، ودون ذنب منها، وهي لا تعلم شيئا عن حب أخيها لها، الي سلسلة من الآلام والعذاب، وتحملت شقاءها في صبر وكبرياء، فهي تعرف أن اليتيم لا سكن له سوي الغربة، ولا ونيس له سوي الصبر والألم.. ولكنها صمدت وأستطاعت أن تصنع من فشلها نجاحات كبيرة، فكانت تؤمن بأن من عرف غايته، وحدد هدفه في الحياة، لا يضل الطريق أبدا، وتهدأ كل جراحه. في مقدمة الرواية قالت نور عبدالمجيد أن هناك رجالا ونساء يقتسمون بيتا واحدا، وفراشا واحدا لكنهم لا يلتقون أبدا، وفي المقابل هناك روابط قوية وأحاديث وود لا ينقطع بين آخرين قد يكون كل منهم يعيش في قارة بعيدة!