يبدو أن كارثة الزراعة بالصرف الصحي أكبر كثيرا مما كنا نتخيل, ويبدو ثانيا أنها أكبر بكثير من مجرد عدة فدادين, في هذه المحافظة أو تلك, يرويها أصحابها بمياه الصرف الصحي غير المعالجة نظرا لندرة المياه العذبة المخصصة لزراعة الخضر والفاكهة. ويبدو ثالثا أن الوزارات المعنية بهذه القضية, وفي المقدمة وزارات الزراعة والري والإسكان والبيئة والصحة, والمالية التي توفر الاعتمادات المالية للمشروعات, قد تجاهلت الأمر عن عمد أحيانا, وعن جهل وقصر نظر أحيانا أخري. ويبدو رابعا ان أحدا من المسئولين لم يدرك بالصورة المطلوبة أن صحة الإنسان المصري مكون أساسي للأمن القومي وان العبث بهذه الصحة هو عبث مذموم بالأمن القومي نفسه, إذ كيف يمكن لبلد أن يدافع عن نفسه ويبني قوته العسكرية والمدنية والصناعية والاقتصادية وسكانه يعانون الأمراض المختلفة ويعيشون في بيئة ملوثة أرضا وجوا وبحرا. المسألة إذن جد وليست بالهزل, وليست من النوع الذي يمكن غض الطرف عنه, أو التعامل معه باستخفاف ولا مبالاة لعل الناس تنسي وتنصرف إلي همومها اليومية المزعجة, أو تتلهي بإعلام مغيب عن الوعي وفقد دوره التنموي وانغمس حتي النخاع في كل ما هو مبتذل ودعائي فج. ولدينا في تخمة دراما الشهر الفضيل دليل علي فقدان الدور التنموي لا يحتاج إلي كثير بيان. وحين نشرت في هذا المكان في الأسبوع الماضي مقالا بعنوان زراعة بالصرف الصحي كارثة تستدعي المحاسبة, لم تكن المعلومات المتاحة آنذاك, أي قبل أسبوع واحد فقط, قد أوضحت أن الأمر هو أكثر من كارثة, فنحن أمام عدة كوارث في آن واحد. وعلي حد قول النائب العام عبد المجيد محمود في مكالمة هاتفية مع سيادته يوم الأربعاء الماضي, فإننا أمام كارثة صحية وزراعية وبيئية في آن واحد, وهو قول فصل. ومما قاله لي السيد النائب العام أنه طلب من وزير الزراعة أن يمده ببيان تفصيلي يوضح حجم المشكلة ومدي انتشارها حتي يمكنه التحرك قانونيا, لكن وزارة الزراعة لم تقدم بعد هذا البيان. وربما قدمته بعد هذه المكالمة بيوم أو أكثر. والمهم هنا أن تقول لنا وزارة الزراعة الحقائق كاملة دون مراوغة وأن تكشف لنا عن الأسباب التي أدت إلي استفحال هذه الكارثة وعن أوجه القصور التي تتحملها وكيف ستعالج الأمر. والمهم أيضا أن تتحرك الأجهزة القانونية المسئولة عن حياة المصريين وأمنهم لمواجهة هذه الكارثة. دعونا نأمل أن يكون هذا البيان المفصل إن قامت وزارة الزراعة بإعداده فعلا بكل شفافية وموضوعية قد تم عرضه علي مجلس الوزراء, والذي نعرف انه سيجتمع بكامل أعضائه اليوم بعد انقضاء إجازات الصيف. لقد حان وقت العمل إذن, والشعب في حاجة إلي معرفة الحقيقة, وكيف سيكون التصرف الفوري القانوني والعملي دون إبطاء أو تأخير. إنها المسئولية التي تتحملها الحكومة بكامل أعضائها, خاصة أن لدينا ترسانة من التشريعات القانونية التي تمنع تماما أي زراعة للخضر والفاكهة بمياه الصرف الصحي, والمهم هو تطبيقها وليس تجاهلها. ولذا ما يقال إن هناك توجها قد تدرسه الحكومة لتجريم مثل هذا العمل يبدو كأنه يغطي علي أوجه القصور التي تتحملها الحكومة فعلا. و لا بأس من أن يصدر تشريع يجرم مثل هذه الزراعات ويجرم أصحابها ويحكم عليهم بالغرامات الباهظة واتلاف الزراعات ويلقي بهم في السجون. ولكن هذا لا ينفي أن هناك مسئولية قانونية ومجتمعية تتحملها بالفعل الحكومة عن تغاضيها عن هذه الكارثة رغم وجود أكثر من تقرير رسمي قدم في فترات سابقة يشير إلي هذه الكارثة وينصح بخطوات عاجلة لمنع استفحالها, غير أن رد الفعل كان باردا و لا مباليا, وهو أمر يتنافي مع الدور الذي يجب أن تقوم به الحكومة فعلا في حماية الناس وصحتهم وحياتهم. فالحكومة هي المسئولة عن توفير المراوي المطابقة للمواصفات للمزارعين, وهي المسئولة أيضا عن زراعة الأشجار الخشبية التي يتطلب استثمارها عشرين أو ثلاثين عاما, وليس صغار المزارعين, علي حد قول أحد خبراء الزراعة البارزين. إذن نأمل أن تتحرك الحكومة فورا, خاصة في ضوء التوجيهات الرئاسية الواضحة بوقف هذه المهزلة واتلاف تلك الزراعات الخطيرة علي الصحة العامة وإيجاد الخطط العاجلة لتوفير مياه الزراعة النقية وإصلاح شبكات الصرف الصحي وإغلاق منافذها أمام الاستخدامات الزراعية المخصصة للخضراوات والفاكهة. نأمل هذا وندرك أن الأمر ليس سهلا, فمثل هذه الزراعات المروية بالصرف الصحي غير المعالج باتت منتشرة في أكثر من محافظة, ولا يوجد استثناء بين محافظات الوجه البحري أو الوجه القبلي, فالكل في الهم سواء, والأمراض الفتاكة لم تعد حكرا علي محافظة أو منطقة دون أخري, ومعدلات التلوث التي إن اختلفت قليلا بين مكان أو آخر, تؤكد أن التلوث بكل أبعاده ومعانيه بات سمة مصرية يومية يتحمل وزرها كثير من الناس وكل الحكومة وأجهزتها التنفيذية والمحلية. وحين نطالب الحكومة بأن تقوم بدورها, تفرض الأمانة علينا القول بأن جزءا كبيرا من هذه الكارثة هو نتيجة تراكمات سابقة, نتجت عنها مصالح كبري وبجوارها مأساة اكبر. وللتوضيح فإن هذه الزراعات التي تجلب لأصحابها بعض الدخل الوفير سنويا, هي نفسها التي تسبب لهم الأمراض وتأخر الصحة وارتفاع معدلات الوفاة. ولكي نعي حجم الكارثة نشير إلي بعض بيانات إحصائية لعلها توضح المعني المقصود. ففي نتائج المسح الصحي الذي أعلنه وزير الصحة في السادس من يونيه الماضي, جاء أن هناك9 ملايين مصري مصابون بالالتهاب الكبدي الوبائي' سي', أي ما يقرب من11% من سكان المحروسة مصابون بمرض خطير, يتكلف علاجه عدة مليارات من الجنيهات سنويا. وفي إحدي ورش العمل الدولية عن انتشار الأمراض في مصر, والتي عقدت في الاسكندرية نهاية يوليه الماضي, كشف المشاركون فيها عن حقائق خطيرة, منها أن40 ألف حالة فشل كلوي و100 ألف إصابة بمرض السرطان تظهر في مصر سنويا, وأن أكثر من3 آلاف طفل يدخلون مستشفيات الأطفال سنويا لعلاج مشكلات تغيير الأعضاء التناسلية, وأن مرض سرطان الثدي زاد في مصر في الفترة من1973 إلي1998 بنسبة40%, وأن من بين مليون مصري يصاب منهم500 فرد سنويا بالفشل الكلوي, وهي نسبة عالية جدا مقارنة بالمعدلات العالمية. وارجع المشاركون هذه الأرقام الخطيرة إلي تلوث البيئة واستخدام الأسمدة والمبيدات الكيميائية في الزراعة وتلوث المياه المستخدمة في الزراعة وتناول الوجبات المشبعة بالزيوت. أما في جانب العلاج لمواجهة أمراض القلب وسوء التغذية وحدها فتتكلف الحكومة22 مليار جنيه سنويا, ولو خصص نصف هذا المبلغ فقط لإصلاح البنية الأساسية للمياه والري الزراعي لكان حال المصريين أفضل مما هو عليه, ولكنه سوء التدبير والتخطيط وقصر النظر. وفي أحد التقارير التي قدمها مركز بحوث الصحراء عن حجم تلوث الزراعات في محيط مدينة العاشر من رمضان, تضمن بيانات علمية مذهلة نكتفي منه بهذه الفقرة' ان ارتفاع معدلات التلوث بمياه الصرف الصحي والصناعي بالمنطقة, والناتج عن مخلفات1130 منشأة صناعية موزعة علي3 مناطق, يهدد حياة أكثر من4 ملايين مواطن بمحافظات القاهرة والاسماعيلية والشرقية, وذلك بسبب تلوث منتجات هذه الأراضي بالعناصر الثقيلة التي تؤدي إلي تدهور نوعية التربة والمياه وعدم صلاحيتها للاستخدام في ري الأراضي لإنتاج محاصيل يعتمد عليها الإنسان والحيوان وتشكل كارثة بيئية. وهي نتيجة تنطبق علي كل الأراضي المروية بالصرف الصحي. وهناك الكثير مما يؤكد أن حالة البيئة المصرية في تدهور, وان صحة المصريين إن سارت علي نفس المنوال للسنوات الخمس الماضية فسوف يتضاعف العبء علي المجتمع بأسره والجهات الحكومية كافة, فهل ننتظر تصرفا حكيما يراعي الحاضر والمستقبل معا؟ دعونا نأمل ذلك. *الأهرام