الأهرام: 6/4/2009 عزيزي القارئ.. إذا كنت قد أخذت كفايتك من أحاديث القمة العربية, وحصلت علي جرعة كافية من خطابات المصالحة العربية والفلسطينية أيضا, وأصبح لديك ما يكفي من الاقتناع بالدور الإقليمي لدولة قطر العظمي, فربما آن الأوان لكي نعود إلي مصر مرة أخري! والعودة هذه المرة لن تكون من أجل معالجة مشكلة من مشكلاتنا الكثيرة المزمنة, لكنها سوف تكون لمراجعة أم القضايا المصرية المتجسدة في ضعف القدرات المصرية المادية والمعنوية التي تجعل الآخرين يتطاولون علينا, أو يطمعون فينا, أو يظنون فينا الظن الكثير. وبصراحة قد تكون فجة قليلا, فإنه لو تصورنا للحظة واحدة أن متوسط دخل الإنسان المصري من الناتج المحلي الإجمالي قد وصل إلي عشرة آلاف دولار سنويا, كما هو الحال عند أول عتبات الدول الغنية والمتقدمة في العالم, وساعتها لن نأخذ معونات من أي من دول العالم, وبالطبع لن يذهب أحد من المحروسة للعمل في الخارج, لأن في مصر ما يكفي وزيادة, فسوف يتغير كل المحيط الإقليمي, بل وحتي العالمي, لأنه سوف يضاف إلي عناصر القوة المصرية الصلبة والناعمة ما يكفي من الثروة التي تجعل لكل ذلك معني استراتيجيا, وربما ساعتها أيضا سوف تكون الديمقراطية الكاملة ممكنة. وحتي تكون الأمور واضحة فإن ما نتحدث عنه ليس تحقيق نمو اقتصادي مثل ذلك الذي جري خلال الأعوام الخمسة الماضية, فمثل ذلك حدث في مصر أكثر من مرة وسبب انتعاشا اقتصاديا لفترة من الوقت, ثم جاءت الضربة داخليا أو خارجيا لكي تعيد عقارب الساعة إلي الوراء مرة أخري, أو تجعلها تتباطأ إلي الدرجة التي تجعل الزيادة السكانية تجتاح قيمتها. وما نتحدث عنه لا يزيد أو يقل عن ثروة طائلة كامنة في مليون كيلومتر مربع من المساحة, و2500 كيلومتر من الشواطئ, وفوقها80 مليونا من البشر( سمعت أخيرا أنهم في الحقيقة84 مليونا, لكن هذه قصة أخري). هذه الثروة فيها من القدرات والإمكانات ما لا يخطر علي عقل أو قلب بشر, وكل ما نحتاجه هو البعث الذي يحولها من رأس مال ميت لا قيمة له وكله أعباء, إلي قيمة سوقية تدور بين الناس يتبادلونها, ويزيدون فيها, ويجعلون من الرمال ذهبا, ومن البحار فرصا للعمل, ومن الأرض زرعا وحصادا. هذا القول كررته مرارا خلال السنوات الماضية, وكلما أتيت علي أحد الأمثلة المهمة وجدت عددا كبيرا من القراء يتحمسون للأمر بالأفكار والكتابات وعندما أشرت منذ أشهر إلي اكتشاف ثلاث بحيرات موجودة في الصحراء الغربية المصرية من قبل أحد المصريين المهتمين, جاءني من ردود الفعل ما لم أتخيله. وفي الأسبوع الماضي نشرت عن استغلال الجزر في النيل والبحر الأحمر, كانت النتيجة انهمار العديد من الرسائل التي فيما يلي أختار واحدة منها للمحاسب حازم مصطفي كمال, التي جاءت كما يلي: تحية طيبة وبعد.. لقد قرأت مقالة حضرتك في الأهرام بعنوان التفكير في التنمية والجزر النيلية والبحرية, بتاريخ2009/3/30, واستوقفني تعبير رأس المال الميت حيث إنني قرأت من خلال الإنترنت عن بحث للبنك الدولي أجري سنة1997 بعنوان رأس المال الميت والفقر في مصر, ويتكلم البحث عن أنه بسبب قوانين الإيجار القديم, وعدم تسجيل العقارات والملكيات التي تعتبر بمثابة رأس مال ميت خارج الاقتصاد المصري ويقدر ب240 مليار دولار(1997), ولا يدخل ضمن الاقتصاد المصري وملاك تلك العقارات لا يستطيعون استعمالها حتي كضمانات لقروض من البنوك للقيام بمشروعات استثمارية وإنتاجية, فأرجو من حضرتك أن تحدثنا عن أثر ضخ240 مليار دولار( بأسعار1997) في الاقتصاد المصري, وتدر دخلا سنويا لميزانية الدولة يقدر ب24 مليار جنيه في صورة ضرائب عقارية يمكن استخدامها في بناء مدن سكنية اقتصادية لغير القادرين من المستأجرين, وأثر ذلك علي90 حرفة وصناعة متصلة بصناعة التشييد والبناء وتوليد فرص عمل جديدة في ظل ازدياد معدل البطالة, وصيانة ثروة مصر العقارية التي لن يصونها غير ملاكها, وليس اتحاد شاغلين أو غيره, وعلي توازن العرض والطلب في أسعار العقارات والأراضي والإيجارات, واستثمار السيولة الموجودة بالبنوك, واستخدام هذه العقارات الميتة كضمان لقروض للاستثمار والتنمية في ظل الأزمة المالية الطاحنة, وحل مشكلة العشوائيات( حيث إن) الحكومة تري الحل في تحزيم العشوائيات وتطويرها وهدم غير الآمن منها, وتفريغ القاهرة من الكثافة السكانية فأين يذهب السكان بعد أن تم تحزيم القاهرة بالإسكان الفاخر, والمنتجعات, وملاعب الجولف؟ أعتقد أن تفريغ القاهرة لن يتم بالبلدوزر والأمن المركزي في مواجهة السكان الذين يتشبثون بإيجار الجنيهات الخمسة للشقة في عقارات آيلة للسقوط, لكنه يتم بإنشاء مدن جديدة حقيقية مربوطة بخطوط نقل جماعية وسكك حديدية لتعميرها, ولنا في البارون إمبان ومترو مصر الجديدة مثال علي ذلك, وهذا فكر رجل بلجيكي غير مصري من أكثر من مائة عام. من وجهة نظري البسيطة أري في تحرير الإيجارات القديمة من الناحية الاقتصادية كنزا لا يجوز التخلي عنه في هذه الظروف المحيطة بمصر, وهو كنز تكون من أموال ملاك العقارات المجمدة لأكثر من ستين سنة, وأري أنه قد حان الوقت لإيقاف هذه المهزلة وهدر الثروة, يجب نفض الغبار عن هذا الكنز واستثماره لحل مشكلات كثيرة تغنينا عن سؤال اللئيم. وهكذا انتهت رسالة المحاسب حازم مصطفي كمال التي تركز علي أصل القضية, وهي إدارة الثروة المصرية وكيفية تعظيم الاستفادة منها, لكن ذلك لن يحدث ما لم يتم تغيير الفكر المصري الجماعي في هذا الاتجاه, فما يجري حاليا, وما جري خلال العقود الماضية, لم يكن نوعا من الغباء الاقتصادي, وإنما هو طريقة للتفكير نجدها شائعة بقوة بين الساسة والمثقفين والمفكرين, حيث يشيع الخوف والذعر والهلع من إمكان استفادة أي من أطراف المجتمع المصري, أو حصوله علي أرباح طائلة, لأن الفضيلة دائما تكون عندما تتحقق الخسائر التي ليس لها حدود, وفي سبيل ذلك كانت صحف مرموقة علي استعداد للتضحية بالثروة القائمة, والرأسمال الميت, الموجود في جزر يمكنها تعظيم فرص العمل, والاستثمار, والضرائب, والثروة للسكان المحليين, تحت دعوي أنها تهدد الأمن القومي(!) ولأنها سوف تضر مجموعة من الزراع والصيادين. طريقة التفكير هذه شاعت أيضا خلال الأسابيع والأشهر القليلة الماضية عندما بدأ التفكير في النظر في تلك الثروة الطائلة بالفعل, والميتة في الحقيقة, والموجودة في قلب العاصمة, والمعروفةبالقاهرة الخديوية. هذه الثروة المتآكلة بفعل الزمن, والحرائق, والسيئة الاستخدام, في طريقها إلي الضياع لأنها تحولت إلي ثروة لا قيمة سوقية لها, ولا مكان لها في مجال التبادل الاقتصادي, ولا يمكن توريثها, ولا تصلح كضمانة من ضمانات القروض, لأنها تحولت من خلال قوانين الثورة المجيدة إلي إيجارات تافهة( بعض شقق شوارع طلعت حرب, وقصر النيل مؤجرة بمبلغ ثمانية جنيهات, وبعضها الكبير لا يزيد علي ثلاثين جنيها بعد الزيادات التي فرضت خلال الأعوام الماضية), في ظل قانون للإيجار يخنق الثروة العقارية كلها. ما حدث خلال الفترة الأخيرة هو أن الدولة ومؤسساتها بدأت في التحرك لبعث الحياة في رأس مال ميت وطال موته لعقود طويلة من خلال تحويل هذه العقود إلي ملكية وفقا للقيمة السوقية للعقار, وطبقا لحالة الإيجار, وعما إذا كان صاحب الإيجار هو الأول أم أنه هو الوريث الأول أو الثاني الذي لا يحق له الاستمرار, وكل ذلك بعد إعادة تجهيز المباني مرة أخري وفق التقاليد الفنية لهيئة التنسيق المعماري والحضاري. وفي حدود المعلومات التي حصلت عليها من الصديق محمود عبدالله رئيس الشركة القابضة للتأمين, والتي تمتلك قرابة100 عقار من عقارات المنطقة لا تدر دخلا, ولا توجد استثمارا, ولا تفيد شركة التأمين, ولا المستهلكين, فإن تطبيق هذا التطوير والتجديد علي المنطقة كلها وجعلها مغلقة أمام السيارات سوف يحولها, أو يبعثها, إلي أكبر سوق مول إذا استخدمنا التعبيرات الحديثة تجاري مفتوح في مصر كلها, وما حدث حتي الآن في المرحلة الأولي أن شركة التأمين العامة في مصر قد حصلت علي600 مليون جنيه لا تزيد علي كونها دفعة أولي من الثروة ينبغي أن تضاف إلي توفير تكلفة الحفاظ علي القبور العمرانية واقفة دون انهيار. المدهش في الموضوع أن المدفعية الثقيلة للتفكير القديم تحركت فورا, ليس بحثا عن الثروة الجديدة التي ستعود إلي الحياة ونتائجها علي المصريين والدولة المصرية, بل وتجديد العاصمة كلها, وإنما ذهبت فورا إلي الذي سوف يستفيد ويدمر الثروة, وربما يبيعها إلي إسرائيل( هكذا). وهكذا تعود الدائرة إلي نقطتها الأولي, وهي أنه مادام سوف يحصل أحد علي نوع من الفائدة, فإنه ينبغي ألا يتغير شيء, بل من الأفضل أن يجري تدمير الثروة كلها, إن لن يكن بفعل فاعل, فليكن من خلال الزمن الذي هو قادر علي تدمير كل الثروات. مرة أخري إن الثروة موجودة, لكنها لا تصير ثروة إلا إذا كان هناك من يمتلكها وينميها ويستفيد منها ويورثها لأبنائه من بعده, ويكون علي استعداد لطرحها وتبادلها وتنميتها, وذلك هو ما يعرف بالسوق, ويصدق ذلك علي القاهرة, كما يصدق علي سيناء, كما يصدق علي كل صحاري مصر وشواطئها وسواحلها. تلك هي المسألة.