تشاء مصادفة تاريخية مذهلة أن يتزامن حدثان وطنيان ضخمان في لبنان. ففي حين كانت قوى 14 آذار تحيي (في 14 شباط) الذكرى الثالثة لاغتيال رفيق الحريري، كان "حزب الله" يشيّع عماد مغنية، قائد العمليات الأبرز في الحزب الذي يُعتبر العقل المدبّر لبعض أشهر أعمال المقاومة وأكثرها تدميراً. وبما أنه كان على وسائل الاعلام أن تغطّي الحدثين المتضاربين في الوقت نفسه، حظي المشاهد بامتياز نادر سمح له بأن يتفرج على الحدثين يدوران أمام ناظريه على الشاشة عينها. لم يعرف تاريخ لبنان من قبل هذا القدر من التنافر والانقسام بين المجموعتين السياسيتين اللتين تتقارعان للهيمنة على مستقبل البلاد المتنازع عليه. كان احتفال 14 آذار مشهداً متهللاً. فقد تحدّت الجماهير التي تغمرها النشوة العارمة، الطقس العاصف واحتشدت في ساحة الشهداء بأعداد فاقت كل التوقعات. اختنقت بهم المساحات المفتوحة ومواقف السيارات، وسُدّت كل الشرايين الاساسية التي تقود الى وسط المدينة الذي كان مفعماً بالحياة في ما مضى. كان التجمّع مزيجاً عفوياً من ثلاث مجموعات واسعة قادمة من الطوائف المسلمة والمسيحية والدرزية تجسد الفئات الاقتصادية - الاجتماعية الأوسع في المجتمع. فكان اختلاط ودي بين النساء المحجبات ومواطناتهم الطليعيات اللواتي يردتين ثياباً على الموضة. وامتزج مع الحشود ايضاً رجال الدين الذين يعتمرون العمامات ويتميّزون بلباسهم. حوّلت الاعلام المرفرفة والرايات واللافتات والمظلات الملونة والمعاطف والقبعات الواقية، التجمّع تحفة فنية متحركة تكاد تشبه بساط ريح سحرياً أو لوحة زيتية على القماش لجاكسون بولوك تبهر الابصار!! على بعد ثلاثة أميال فقط، كانت جنازة مغنية في الضاحية الجنوبية نقيض احتفال 14 آذار في الشكل والمضمون على السواء. كانت كل المظاهر البادية منها تشير الى مجموعة معدّة سلفاً من التوجيهات التوتاليتارية الصارمة والغريبة. فالنساء اللواتي يرتدين جميعهن التشادور الاسود، احتشدن معاً. وبدين على الشاشة مثل نسيج أسود مرقّط لا يتحرك من مكانه. واحتل الرجال الملتحون الذين يضعون منديل الحزب وشارته وعصبة الرأس، مساحة مجاورة. وكان خطاب نصرالله المقذع الذي ألقاه هذه المرة ملوحاً بإشارات تنذر بالقتال ومستخدماً كلمات تستحضر الحرب، يقابَل دائماً بهتاف إيقاعي منظّم. وكان الرجال يرفعون معاً وبتحدٍ أذرعتهم المشدودة القبضة في الهواء الكثيف بينما يهتفون متوعدين بالانتقام. وختم نصرالله كلمته التأبينية العدوانية بلازمتين يرددهما دائماً: محو الدولة الصهيونية عن الخريطة، وإعلان "حرب مفتوحة" على المصالح الاسرائيلية والاميركية أينما كانت. لا شك في أنه خلف تلك الاختلافات الواضحة في الاسلوب والتكتيكات المعتمدة في صنع الصورة، هناك انشقاقات إيديولوجية عميقة تثبّت المشروعية السياسية لكل مجموعة. إنها بالنسبة الى قوى 14 آذار العدالة العقابية. فكشف هوية المذنبين الذين ارتكبوا الجرائم المروّعة ومحاكمتهم وإدانتهم تأتي قبل كل المشاغل الاخرى. وحده إحقاق العدالة يسمح للبنان بأن يحافظ على سيادته واستقلاليته، وبأن يحصّن نفسه ضد عودة مصادر عدم الاستقرار. ويجري تذكيرنا، وهو تذكير في محله، بعدد الايام (1101 عند كتابة هذا المقال) التي تنقضي منذ اغتال المجرومون الاشرار الحريري ومجموعة أخرى من الابطال المجلّين في حين تمنح قوى 14 آذار نفسها مشروعية من خلال ايام الخسارة والأسى، تتفاخر قوى 8 آذار باحتلال الساحة التاريخية في وسط بيروت. تذكّر وسائل إعلامها المستمعين بأيام الهدر والتعطيل (450 حتى الآن) التي استطاعوا التسبب بها. ومع أن هاتين المجموعتين من الايديولوجيات المتنافرة غريبتان جداً، إلا أنهما تقولبان الآن الاقدار الجماعية للمجتمع اللبناني المصاب بالتروما. على الرغم من الاختلافات اللافتة بين قوى 8 آذار وقوى 14 آذار، يتشاطر الفريقان خاصية شاذة تتحمل الى حد كبير المسؤولية عن المأزق السياسي في لبنان. فمنذ أكثر من ثلاث سنوات، المجموعتان عالقتان في حرب كلامية تصاعدية قائمة على تبادل الاوصاف المسيئة حيث تنعت كل مجموعة "المجموعة الاخرى" بأنها تعاني من كل العلل التي نجدها عند المجموعات غير السوية والخونة الممقوتين والاعداء. بالفعل، فإن عمق الجفاء الذي تكنّه كل مجموعة للأخرى تبنّى اخيراً كل التلميحات العدوانية لإيديولوجيات العداوة. وبما أن هذه العداوة المستحثّة موجهة مباشرة ضد مجموعات محلية، ينبغي على المرء أن يحوّل، بالمعنى الحرفي للعبارة، الأخ متعصباً لتبرير حقده المخترع ضده. للمأزق السياسي الحالي جانب محيّر. تتنصّل المجموعتان الحرونتان من اللجوء الى العنف الا أنهما تتشبّثان بخطابهما العدواني. تحتقن مجموعة غضباً ومرارة بينما تعتمل الاخرى خوفاً وقدرة على التعافي. على الارجح ان لبنان اليوم هو من المجتمعات الاكثر معاناة من التروما من دون أن يلوح حتى الآن أي انفراج في الأفق. فكل الجهود المتكررة التي بذلتها كل القوى الاقليمية والعالمية الممكنة، كانت عقيمة حتى الآن. ولم تفلح الدعوات الست عشرة المتوالية لانعقاد مجلس النواب الميت من أجل انتخاب الجنرال ميشال سليمان رئيساً للجمهورية (لا شك في أنه حقل تجارب جديد من الارقام القياسية). وإذ ينتهك القادة السياسيون المنقسمون كل المكونات الاساسية للديموقراطية القائمة على المشاركة، يهزأون ايضاً من الفضائل المدنية للاحتجاج العام. في كل الديموقراطيات المفتوحة، الجدل والخلافات والنزاع الذي يبقى ضمن نطاق المقبول هي مؤشرات صحية. النقاش العام الحيوي يخدم عادة المصلحة العامة ويجعلها أقوى. لكن عندما يشوّه الخطاب المتطرف الخلافات في الرأي، تحصل ثلاثة أمور: أولاً ينحطّ النقاش العام فيتحوّل ميتا-سياسة عقيمة؛ أو أسوأ من ذلك يتحول مجرد تبادلات مقذعة للاهانات وللقدح والذم. كما يصبح الخطاب الديموقراطي مهدداً ويتحوّل النقاش العام المفتوح والصادق مجرد رياضة استعراضية سلوى وطنية مغرية انما مشتتة ومدمّرة. لا شك في ان الضحية الاساسية في هذا كله هو المواطن الديموقراطي، يعامل بازدراء ويُخدع ويُحط من قدره. يكفي ان ننظر الى الهدر الثقافي والفكري بينما يهين الاعلام ذكاءنا ويسيء الى احاسيسنا الجمالية على مدار الساعة عبر بث برامج حوار لا تنتهي هي اشبه بمصارعة الديوك الترفيهية في ثقافة قبلية. لم يسبق ان كان مستوى التهجم الكلامي وتشويه سمعة الآخرين بهذا القدر من الفظاظة والتعسفية. في حين ان الاستراتيجيات الثابتة التي تنتهجها قوى 14 آذار قد تكون جديرة بالتقدير، فان مطالب قوى 8 آذار الاستفزازية والتصعيدية هي التي تعرقل كل امكانات التوصل الى مصالحة او توافق. لقد فشلوا حتى الآن في تحقيق اي من اهدافهم المعلنة – اي استقالة حكومة السنيورة او انتخاب رئيس يحظة بموافقة النظام السوري او ارغام القيادة العسكرية على الخروج عن سيادة الحكومة او اقناع الجامعة العربية والقوى الاجنبية بعقد اتفاق مع سوريا او، وهذا هو الهدف الاهم على الارجح، تعطيل تشكيل المحكمة الدولية او منعه. لكن على الرغم من فشلهم، وربما بسببه، يزيدون من حدة خطابهم المتطرف وميولهم الضيقة الافق والدوغماتية، ونظرتهم الاعتدادية الى تفوق وجهات نظرهم، وازدرائهم لوجهات النظر الاخرى. وفي ظهورهم العلني الذي يصبح اقل جاذبية بسبب الخطب المرتفعة النبرة ولغة الجسد المخيفة، يجسدون اثنين من مفاهيم نيتشه: الشماتة schadenfreude والضغينة ressentiment. المفهوم الاول هو اللذة التي تستمدها مجموعة ما من انزعاج الآخرين والمهم. وقد ندد الكاتب الفرنسي الذائع الصيت مونتين قبل نحو خمسة قرون بهذا العيب البشري المقيت عندما كتب "فليفتش كل واحد منا في قلبه، وسيجد ان تمنياتنا الداخلية تولد في الجزء الاكبر منها وتنمو على حساب الآخرين". بالنسبة الى قوى 8 آذار، اصبح ازعاج الآخرين وتعمد العرقلة جدول الاعمال الاعز على قلبها. تسبب "حزب الله" احادياً بما يعرف بحرب تموز 2006 التي ترتّبت عنها نتائج مدمرة على اقتصاد البلاد وبنيته التحتية، فقد قدّرت كلفة اعادة الاعمار بنحو 4 الى 5 مليارات دولار، كما حصدت الحرب عدداً كبيراً من الارواح وألحقت اضرارا جسيمة بالممتلكات الشخصية. ويكتسب الدمار حدة اكبر لأن الحرب اندلعت في وقت كانت البلاد تظهر فيه بوادر معافاة وتضامن. الغريب هو ان "حزب الله" لا يزال يحتفل بنتيجة الحرب التي يعتبرها "نصرا الهيا". لعل التعبير الأكثر حقدا عن الشماتة هو احتلال وسط بيروت التاريخي. عندما بدأ وسط بيروت المرمّم يبرز كمساحة عامة مفتوحة وكوزموبوليتية، وربما بسبب الشهرة التي اكتسبها بعدما حضن ثورة الارز عام 2005، تحول هدفا مشتهى للتدنيس، يتم تدميره المتعمد بلامبالاة كبيرة وكأن عمق العاصمة هو ارض عدوة يجوز نهبها وتحويلها موقعا مهجورا آخر. قد يكون هذا الحقد المتجذر انعكاسا لتشنجات مذهبية لم تجد لها حلا. والا ما كان ليظهر هذا التجاهل الانتقامي لرفاه الآخرين. بالفعل، فان الضرر الواسع الذي تسببه "مدينة الخيم" هو في نظرهم مجرد ركن في موقف سيارات تابع لآل الحريري. واخيرا، وانطلاقا من الذهنية الشريرة، يستقيل ستة وزراء تابعين ل"حزب الله" من الحكومة في حيلة تهدف الى اعلان الحكومة غير شرعية وغير دستورية. وبالمناسبة، ليست استقالتهم نهائية ولا كاملة. بل انها استقالة نزوية وظرفية. فهم يضطلعون بواجباتهم عندما يرون ان في ذلك خدمة لمصلحتهم الفئوية. وعدا ذلك يجاهرون باستقالتهم. هنا تتجلى الضغينة التي يتحدث عنها نيتشه. وفي هذا الاطار، تتغذى الشماتة والضغينة الواحدة من الاخرى. انه الشعور المستشري بالكره والحسد والعداوة الذي يجمع بين فظائع الاثنتين معاً. وعندما لا يكون هذا الشعور متجذرا في اي مجموعة ملموسة من المظالم، يتحول شكلا من العداوة العاجزة. فقوى 8 آذار، وعلى الرغم من استراتيجياتها التعويقية، غير قادرة على تعبئة حقدها بفاعلية ضد من يثير هذا الحقد. وكما يذكّرنا نيتشه، تتحول اعادة اختبار هذا الشعور بالعداوة العاجزة مجرد سلوك كيدي يؤكد وحسب أن الاهداف المرجوة إنما التي يتعذّر تحقيقها لا تجسّد في الواقع القيم الثمينة. إنه مفترق طرق مصيري في تاريخ لبنان السياسي. والوقوع في شرك هذه العداوة المطولة لا يبشّر بالخير. عندما يتحول النزاع الذي تطلقه شرارة الخصومات المتحدية والمذهبية، من خلاف على مشكلات قابلة للتجزئة (انتخاب رئيس توافقي، تقاسم السلطة، صلاحيات مجلس الوزراء، القانون الانتخابي وما شابه) الى خلاف على مسائل غير قابلة للتجزئة (مثل مستقبل لبنان وطابعه ووجوده كدولة تعددية ومنفتحة ومستقلة)، من المحتم أن يصبح طابع النزاع أكثر عدوانية. يجب أن نتذكر دائماً أن الفئات الاجتماعية العادية تشعر بالمرارة لخسارة مكانتها ومصالحها المادية وامتيازاتها. تشعر المجموعات "الإتنية" (في هذا السياق التشكيلات الطائفية والمتحدية) بالتهديد أمام احتمال خسارة حريتها واستقلاليتها وهويتها وإرثها؛ وحتى وجودها الوطني في ذاته. وهذا ما هو على المحك الآن في لبنان. ولهذا السبب تسترسل قوى 14 و8 آذار في عنادها وعدم مرونتها. وفي معرض هذا الكلام، من المفيد جداً التوقف عند الادلة المقارنة عن العلاقة بين العنف المدني وتسوية النزاعات. لسوء الحظ، يؤكد الجزء الاكبر من هذه الادلة آفاق لبنان القاتمة. فعلى الاقل، يظهر تحليل لما آلت اليه ست حالات أخرى من التململ الاجتماعي - كولومبيا وزيمبابوي واليونان واليمن والسودان ونيجيريا والحرب الاهلية الاميركية - أنه في الحالات التي يكون فيها النزاع في شكل اساسي ذات طابع إتني ومتحدي في مقابل النزاع الذي تسببه مشكلات اقتصادية و/أو سياسية، يصبح احتمال التوصل الى تسوية سلمية من خلال التفاوض ضئيلاً جداً. بالفعل، كل الحروب المتحدية تنتهي بالدم إذا جاز التعبير. يجب أن يكون هناك غالب ومغلوب قبل أن يبدأ المتقاتلون بالتفكير في التفاوض. غير أن كل الحلقات السابقة من النزاع الجماعي في لبنان لم تنتهِ أو لم يُسمح لها بأن تنتهي بغالب أو مغلوب أكيد. الخيار الاخر الوحيد في هذه الظروف هو السير في احتمالات التقسيم او في تدبير كونفيديرالي ما. وهذا بدوره مستبعد الى اقصى الحدود. اذا كان اللبنانيون يواجهون مشكلات في العيش معا بسلام، فان الانفصال اكثر اشكالية. مجدداً، يكتنف الغموض المستقبل السياسي للبلاد. ويزيد التداخل المعتاد بين الانقسامات الداخلية والخصومات الخارجية من حدة الازمة. وهكذا يبدو لبنان من جديد ساحة معركة بالوكالة لحروب الآخرين. في غياب حدث زلزالي غير متوقع قدر البلاد هو ان تبقى في هذا الفراغ المريب.