الأهرام:23/10/2008 الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولاياتالمتحدة وما لبثت دوائر اثارها السلبية ان امتدت إلي أوروبا واسيا والعالم العربي, تثير عديدا من النقاشات النظرية التي لايمكن لها ان تغيب في ظل تدخل الدولة الصارخ في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا لانقاذ النظام الاقتصادي الرأسمالي. وذلك لسبب بسيط وان كان بالغ الأهمية, هو ان العولمة الرأسمالية التي دعت إلي كف يد الدولة نهائيا عن التدخل في الاقتصاد, واطلاق حرية السوق إلي غير ما نهاية, وتشكيل السوق الاقتصادية الكونية التي تزيل الحواجز والحدود بين الدول, هي بذاتها تعد خاتمة وان كانت مؤقتة كما ظهر مؤخرا للجدل الطويل الذي دار طوال القرن العشرين بين الرأسمالية والماركسية. هذا الجدل اتخذ اشكالا متعددة فلسفية واجتماعية واقتصادية وسياسية غير ان محوره الرئيسي كان هو السوق في مواجهة الدولة, بعبارة اخري منذ ان ظهرت السوق كآلية اساسية للتبادل التجاري مع بداية ظهور الرأسمالية الأوروبية كما ابرز ذلك كارل بولاني في كتابه الكلاسيكي التحول العظيم والجدل لم يتوقف حول دور الدولة في الاقتصاد, وهل ينبغي تقييده بالكامل أو جزئيا في سبيل حرية السوق المطلقة, ام ينبغي علي العكس تدعيمه, وفي الصور المتطرفة للدول الاشتراكية, هيمنة دور الدولة علي الاقتصاد, حتي يصبح اقتصادا مخططا, يقيد حرية السوق إلي درجة كبيرة. غير ان الجدل لم تحسمه قوة الحجج الفلسفية لدي كل فريق, ولكن الذي حسمه هو التاريخ! وذلك لأنه عقب الثورة البلشيفية في روسيا عام1917 برزت قوة عظمي هي الاتحاد السوفيتي الذي تبني الماركسية كنظرية وطبقها بطريقة خاصة للغاية, جعلها نموذجا لتطبيقات مشابهة في اقطار شتي من العالم, غير انه بالرغم من تعددية التطبيق فقد بقي الجوهر واحدا, السلطة المطلقة للدولة في إدارة الاقتصاد, والحركة البالغة الضيق للسوق. عبر مسيرة شاقة ومتعثرة امتدت أكثر من سبعين عاما انهار الاتحاد السوفيتي, وسقطت بالتالي بالمعني التاريخي للكلمة ابرز تجربة للاقتصاد المخطط الذي اطلق العنان للدولة, واعتقل السوق في الوقت نفسه! بعد هذا الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي, برزت تنبؤات متفائلة عن مستقبل الرأسمالية باعتبارها هي التي سترث الأرض وما عليها بعد ان اختفت الشيوعية, وانتهي التاريخ, اذا ما استخدمنا عبارة فوكاياما الشهيرة. وبدأت العولمة الرأسمالية رحلة صعود بارزة بعد غياب الخصم التاريخي, تحت شعار الليبرالية الجديدة, ودعوتها للالغاء النهائي والمطلق لدور الدولة في الاقتصاد, ورفع شعار حرية السوق المطلقة, باعتباره جوهر العملية التاريخية التي يمر بها العالم في الوقت الراهن. ونحن قد تابعنا بدقة منذ عام1990 في دراساتنا وكتبنا المنشورة الصراع المرير الذي دار بين انصار العولمة وخصومها, تماما مثلما تتبعنا من قبل المرحلة النهائية في الجدل بين انصار الماركسية ودعاة الرأسمالية وخصوصا بمناسبة صدور أهم كتاب جدلي في الموضوع وهو الذي الفه عالم الاجتماع الأمريكي المعروف بيتر برجر ونشره عام1987 بعنوان مثير هو الثورة الرأسمالية: خمسون مبدأ حول الرخاء والمساواة والحرية والذي نشرته دار وايلد هود هاوس. غير ان التاريخ كما اشرنا هو الذي حسم الجدل بعد ان بسطت العولمة الرأسمالية رواقها علي الكون بأسره, بالرغم من بروز بعض الاصوات المعارضة من اليسار, بل ومن بين بعض الليبراليين الذين يتمتعون بالحس التاريخي وبالموضوعية, التي دفعت بهم منذ وقت مبكر حقا إلي ان يلتفتوا إلي المخاطر الكبري في ايديولوجية العولمة, والتي تتمثل اساسا في الالغاء الكامل لدور الدولة والحرية الطلقة للسوق, وفي مقدمة هؤلاء المفكرين استاذ الاقتصاد الأمريكي داني رودريك. وكنت قد دعيت لالقاء محاضرة في مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة هارفارد منذ سنوات طويلة; عن الصراع العربي الإسرائيلي, وهناك اكتشفت كتابا مهما لداني رودريك عنوانه اللافت هل ذهبت العولمة بعيدا في طريقها؟ نشر هذا الكتاب معهد الاقتصاديات العالمية في واشنطن بتاريخ مارس1997 وحين طالعت الكتاب نحيته جانبا لاحساسي ان العولمة كانت في وقت نشر الكتاب في بداياتها, ومن هنا احسست وكأن داني رودريك يتعجل الحكم علي ظاهرة العصر وهي العولمة, قبل ان تسفر عن ملامح وجهها الحقيقي! غير أنه بعد الانهيار المالي المدوي للاقتصاد الأمريكي المعولم ادركت ان داني رودريك كان علي حق في نقده المبكر, وانني اخطأت في تقييم محاولته الجسور في التحليل الموضوعي للعولمة., تصحيحا لخطئي في تقييم رودريك قررت ان ازوره مرة أخري بمعني العودة لقراءة كتابه, وبدأت بشبكة الانترنت, ففوجئت بأن له موقعا خاصا, وانه نشر في هذا الموقع تعليقا مهما عن الانهيار بعنوان من الذي قتل وول ستريت؟ وذلك باسلوب نقدي ساخر بتاريخ12 أكتوبر2008. وقد استعرض فيه الاسباب المحتملة لكارثة الانهيار, واعترف صراحة بأنه من الصعب بمكان تحديد السبب الرئيسي لما حدث بل انه وصل إلي حد القول إنه حتي بعد مرور زمن كاف علي ما حدث ربما لن نصل ابدا إلي التكييف الحقيقي لهذا الحدث الجلل, وهل كان نوعا من الانتحار يقصد الاقتصادي بالطبع ام كان جريمة, وقد يكون موتا عارضا, ام لعله حالة نادرة من حالات الفشل الاقتصادي الشامل؟ ويختتم تساؤلاته الحائزة بقوله: ربما لن نعرف أبد السر الحقيقي فيما حدث ان هذه التساؤلات الحائرة التي صاغها رودريك بعد الانهيار تتجاهل في الواقع تحليله النقدي العميق لسلبيات العولمة, والتي سجلها في كتابه الذي اشرنا إليه من قبل. وقد قرر بوضوح في مقدمة الكتاب ان تطورات العولمة البازغة برز فيها عنصر اساسي هو ان تحقيق التكامل الدولي في مجال الاسواق فيما يتعلق بالسلع والخدمات ورءوس الاموال, قد دفع بالمجتمعات المختلفة دفعا لتغيير ممارساتها التقليدية. ولذلك قامت صراعات عنيفة بين مجموعات كبيرة من السكان والدول التي تبنت العولمة, ويضرب لذلك امثلة متعددة من فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية, خصوصا بصدد التأثيرات السلبية لسياسات العولمة علي التشغيل والبطالة. وقد حاول رودريك ان يحدد اسباب التوتر في مختلف المجتمعات كرد فعل للعولمة في ضوء السبب الرئيسي وهو ان العولمة بسياساتها المطبقة الآن تؤدي إلي التفكك الاجتماعي, وتزيد الفجوة بين من يملكون والذين لايملكون, وترفع معدلات البطالة, وتزيد من انتشار دوائر الفقر, وتهميش فئات واسعة من العمالة غير الماهرة, بل واقصاء دول نامية من دورة التبادل المنتج, بحكم هشاشة اقتصادها وعدم قدرتها علي الصمود في مجال التنافس العالمي. وقد ركز رودريك علي ثلاثة مصادر للتوتر بين السوق الكونية والاستقرار الاجتماعي. والسبب الأول في نظره ان الغاء القيود علي التجارة والاستثمار من شأنه ان يعمق عدم المساواة بين الجماعات التي تستطيع عبور الحدود الدولية سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق نقل الشركات الدولية نشاط مصانعها بالكامل أو جزئيا إلي البلاد النامية حيث العمالة الرخيصة, وهي العملية التي يطلق عليهاoutsourcing, والجماعات الأخري في البلاد النامية التي لاتستطيع ان تطبق الطريقة نفسها في الانتقال عبر الحدود. الجماعات الأولي تتكون من ملاك رءوس الأموال, والعمال المهرة, وعديد من المهنيين الذين يستطيعون الانتقال بسهولة بحكم ما يمتلكونه من رءوس اموال ومهارات من بلد إلي اخر, بل ومن قارة إلي اخري حيث تبدو فرص الاستثمار واعدة, في حين ان الجماعات الأخري التي تتشكل من المديرين من المستوي المتوسط والعمال غير المهرة, ليس عليهم طلب خارج بلادهم, ومن هنا فحركتهم مقيدة. ومعني ذلك ان العولمة بحكم الياتها تستطيع ان تستغني عن جزء من العمالة من أهل البلاد وتحل محلهم عمالة مستوردة عالية المستوي, ولذلك ما فيه من آثار سلبية علي العمالة المحلية. بعبارة أخري بدلا من ان تلجأ الدولة أو الشركات المحلية إلي وضع استراتيجية شاملة لتطوير وتدريب القوي البشرية, تلجأ إلي السهل وهو استيراد عمالة اجنبية مدربة, وذلك شبيه تماما باستسهال الدول والحكومات لحل تسليم المفتاح, بمعني استيراد المصنع بالكامل مع الفنيين الاجانب, بدلا من بذل المجهود الايجابي في مجال توطين التكنولوجيا, كما تفعل الصين الآن, وكما فعلت ماليزيا من قبل. والسبب الثاني من اسباب التوتر الذي تحدثه العولمة, في رأي داني رودريك, هو انها تحدث صراعات بين الأمم تدور حول المعايير المحلية والمؤسسات الاجتماعية التي تعبر عنها. وذلك لان تكنولوجيا صناعة السلع اصبحت مقننة وموحدة عالميا, مما جعل الأمم التي تمتلك أنساقا مختلفة, من المعايير والقيم والمؤسسات والتفضيلات الجماعية, تتنافس في السوق العالمية للحصول علي السلع المشابهة. غير ان التنافس العالمي يؤدي في الواقع إلي ظلم بين, لأن التبادل يتم بين دول متفاوتة تفاوتا ضخما في مستوي نموها وفي قدراتها الاقتصادية ومستوي مبادراتها التكنولوجية, ومعني ذلك انه ليس تنافسا حقيقيا ولكنه معركة غير متكافئة بين الاقوياء والضعفاء! وبالتالي ليس هناك إنصاف في هذه العملية مما يفقدها في الواقع شرعيتها المزعومة, ولعل هذا هو سر الصراع العنيف بين الدول النامية والدول المتقدمة داخل منظمة التجارة العالمية, حيث تحاول الدول النامية تعديل الشروط المجحفة في كثير من ميادين التبادل التي فرضتها عليها الدول المسيطرة اقتصاديا. ومصدر التوتر الثالث بين العولمة والاستقرار الاجتماعي انها جعلت مهمة الدول في توفير الضمانات الاجتماعية للمواطنين بالغة الصعوبة, وذلك لان ايديولوجية العولمة المتطرفة التي تتمثل في الغاء دور الدولة الانتاجي تماما تجنح ايضا إلي الغاء دورها الاجتماعي, وتضغط لالغاء الدعم بل ولالغاء عديد من التشريعات الاجتماعية التي صيغت منذ عقود لضمان الحد الادني من الحياة الكريمة للمواطنين الفقراء ومتوسطي الدخل. ان تطرف العولمة الرأسمالية في هذا الاتجاه كما يقرر بشجاعة داني رودريك سيدعو الجماهير إلي معارضتها والمطالبة بعودة الدولة للقيام بوظائفها الانتاجية حتي ولو بلغت حد التأميم, وإلي وظائفها الاجتماعية التقليدية, وقد يحدث هذا في زمن غير بعيد! كتب رودريك هذه النبوءة عام1997 ولم يكن يدري ان الانهيار الرأسمالي الكبير سيحدث عام2008 وستضطر الدول الرأسمالية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي ضخ آلاف ملايين الدولارات لانقاذ الشركات والبنوك الرأسمالية التي تهاوت, بل إلي تأميم بعض البنوك! وهكذا انقلبت الرأسمالية علي أهم مبدأ من مبادئها التقليدية, وهو كف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد! ما أخبث دهاء التاريخ!