الشرق الأوسط 17/12/07 كالعادة في مسلسل الاغتيالات الراهن، أي الذي يعيشه لبنان منذ مطلع عام 2005، لا يترك القتلة شيئاً للمصادفة. فالرسائل بليغة، والأهداف أيضاً مدروسة بدقة وعناية. واستهداف اللواء فرنسوا الحاج، بالذات، يأخذ في الاعتبارات عدة حقائق تتكامل فتخدم الغاية الحقيقية المباشرة، لكنها في الوقت عينه، تموّه على هذه الغاية بأكبر قدر متيسر من التضليل. أمر واحد على الأقل ما عاد يحوم حوله أدنى شك مع العد التنازلي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية المقرر أن ينتهي اليوم هو أن ثمة مَن يريد للبنان «رئيساً واجهة» يكون صورة رثة مهمتها «ملء الفراغ بمثله»، على حد تعبير السياسي والصحافي اللامع الظريف المرحوم الشيخ يوسف الخازن. نعم يُراد للبنان، حيث لا دولة ولا سيادة ولا مؤسسات... شخص «يبصم على بياض». شخص ممنوع من الحل والربط... بل يستحسن أن يكون عاجزاً عن الحل والربط، وذلك لكي يوفّر على المتصرّف الحقيقي بشؤون البلاد والعباد تحمّل مسؤوليات الإحراج... أو الفشل عند حدوثه. ولا حاجة إلى مراجعة ما حدث وما قيل خلال الأسبوع الفائت خارج حدود لبنان، لأن الترجمة المحلية واضحة جداً. غير أن الخطوة الأكثر إثارة لاستغراب مَن مازال يتمتع بالحد الأدنى من الإدراك... هي قرار المعارضة سحب ملف التفاوض مع الأكثرية البرلمانية من رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه برّي وتسليمه للنائب الجنرال ميشال عون. لماذا اتخذ هذا القرار الغريب العجيب يا تُرى؟ البعض يذكّر بأن برّي لا يستطيع أن يظل إلى ما لا نهاية حَكَماً وخصماً في آن معاً. فهو من ناحية... رئيس مجلس النواب الذي هو اليوم بحكم نصوص الدستور «هيئة ناخبة (أو انتخابية)». ومن ناحية ثانية هو أحد ركني «الشيعية السياسية» التي تخوض منذ أكثر من سنة كاملة حرباً ضروساً لإسقاط الحكومة «البتراء غير الدستورية وغير الميثاقية وغير الوفاقية»...، وإلغاء الأكثرية التي تعتبرها منذ فترة غير قصيرة «أكثرية وهمية» يجب عليها أن تنسف ذاتها سياسياً في حال أخفقت الاغتيالات في نسفها جسدياً! وهناك من يشير إلى أن رئاسة الجمهورية منصب مسيحي ماروني لا يجوز تركه في تصرف القيّادة السنيّة للحكومة والقيادة الشيعية للمعارضة. وبالتالي، يجب تحويل «القتال» من أجله إلى المسيحيين الموارنة ولو أدى ذلك الى «حرب إلغاء مسيحية مسيحية» جديدة. وبما أن عون أثبت ولاءه المطلق ليس للقيادة الشيعية فحسب، بل لدمشق أيضاً بشهادة نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في الأسبوع الماضي بات من الطبيعي أن «تجيّر» له مهمة التفاوض مع الأكثرية! وثمة رأي ثالث... هو أن أركاناً أساسيين في المعارضة وحتماً في دمشق وطهران لا يرتاحون مطلقاً لعلاقة الود والثقة الضمنية التي ما زالت تربط برّي بقلة من قيادات الأكثرية، لذا يفضل هؤلاء الأركان ابتزاز الأكثرية بلهجة عون التصعيدية ومطالبه التعجيزية ومنطقه الاستفزازي المقلوب. فإن استسلمت الأكثرية لكل هذا يكون النصر المؤزر قد تحقّق على أهون سبيل... وإذا رفضت يُصار إلى تحميلها تبعات رفض «التوافق» الكاذب. المضحك المبكي في «سيناريو» التذاكي هذا، أن عون الذي لا يعرف كيف يتفاوض مع نفسه فما بالك مع الآخرين ماضٍ في معركته حتى النهاية... من دون أن يرف له جفن، مع أن عدداً ممّن يحيطون به لا بد أنهم يعرفون أنه يُستخدَم منذ مدة كأداة صغيرة للإزعاج والمكايدة في صراع إقليمي خطير حساباته المصيرية أكبر بكثير من حجم عون وطموحاته الرئاسية. ولكن، وبصرف النظر عما إذا كانت المعايير الأخلاقية عند القيادة الشيعية للمعارضة تتناسب مع «سيناريو» من هذا النوع، لا بد للمتابع الموضوعي من الاعتراف بأنها لا تلام أبداً عندما تتوفر لها فرصة ذهبية لاستغلال حالة مسيحية، مثل ميشال عون، على استعداد دائم للقتال بالمسيحيين والتضحية بهم وبمصالحهم ومصيرهم على حلبات صراع مصالح الآخرين. فحالة كهذه نادرة المثال ونادرة الحدوث، وانتهاز فرص تاريخية لوجود أمثالها لا تعوّض إذا فرّط بها المفرّطون. قد يقول قائل، إنه لا يحقّ لي كشخص غير مسيحي «المزايدة» على الرمز الذي حسب كلامه اختصه الله، عزّ وجلّ، ب 70% من أصوات المسيحيين. وأنا أفهم هذا الشعور بالطبع. لكنني هنا أتكلم كمواطن لبناني يشعر بالقلق من تنامي حالات من التطرف الطائفي والديني لا يمكن إلا أن تستثير في الطوائف الأخرى حالات مماثلة مقابلة. ان التعصّب الديني والطائفي لم يكن في يوم من الأيام حكراً على طائفة معينة... لا في لبنان ولا في غيره. و«التكفير» الذي يلغي الآخرين ويستهتر بإنسانيتهم أيضاً مورس عبر القرون في كل أنحاء العالم.. من «محاكم التفتيش» في اسبانيا إلى «القاعدة» وإفرازاتها. وعليه، أعتقد أنه من واجب كل لبناني، بغض النظر عن انتمائه الطائفي، الوقوف بشجاعة ضد الأصوات المستثيرة للغرائز والمقامرة بالتعايش الحقيقي قبل فوات الأوان. فلا وجود للبنان ولا نهوض لأبنائه إلا من خلال التلاقي على مشروع بناء وطن تسود فيه «دولة المؤسسات» وتُمحى من نفوس أهله مشاعر الحقد والشك والغبن والخوف. المزيد فى أقلام وآراء