عندما قفز سعر الأرز إلى 1000 دولار للطن الواحد في أيار/مايو 2008 وهو تقريبا ضعف سعره قبل خمسة أشهر من ذلك التاريخ اضطرت حكومات الدول الآسيوية إلى القيام بخطوة لم تقدم عليها منذ عقود وهي الاهتمام الجاد بالقطاع الزراعي الذي عانى من الإهمال على مدى سنوات اتجهت خلالها الأنظار نحو التنمية الصناعية وتطوير مشروعات البنية الأساسية اللازمة للصناعة وحركة التجارة داخليا وخارجيا والخدمات دون أي اهتمام بالفلاحين الذين يزرعون الأرض منذ آلاف السنين. الحقيقة أن القطاع الزراعي الآسيوي شهد فترة ذهبية خلال الستينيات أثناء ما عرف باسم "الثورة الخضراء" التي استهدت تطوير القطاع الزراعي كقاطرة لتطوير المناطق الريفية في أغلب الدول الآسيوية، وذلك قبل أن تحقق تلك الدول معجزتها الاقتصادية خلال الثمانينيات والتسعينيات. تزامنت "الثورة الخضراء" في آسيا مع ظهور بذور عالية الإنتاجية للمحاصيل الرئيسية مثل الأرز، والذرة، والقمح وزيادة في الإنفاق العام على مشروعات البنية الأساسية في المناطق الريفية فازدادت إنتاجية القطاع الزراعي وأصبح الجوع شيئا من الماضي. وساعدت الضرائب المفروضة على القطاع الزراعي وبخاصة على الحاصلات التصديرية في تمويل عملية التحول الاقتصادي خلال الثمانينيات في اتجاه اقتصاد الصناعة والخدمات فقام الاقتصاد الحديث على أكتاف المزارعين الفقراء. واليوم تم إلغاء أغلب الضرائب المفروضة على القطاع الزراعي، فقد ألغت تايلاند الضرائب على الصادرات الزراعية عام 1986 ثم أقدمت الدول الآسيوية الأخرى على خطوات مماثلة بعد ذلك. كما ألغت الصين كل أشكال الضرائب المباشرة على القطاع الزراعي عام 2006 ووافقت على خطة لدعم المزارعين بمبلغ 5.6 مليار دولار في عام 2007 وفقا لبيانات البنك الدولي. وقامت الحكومات الأخرى في آسيا بخطوات مماثلة أيضا مثل تايلاند التي بدأت دعم المزارعين من خلال نظام لدعم الأسعار وبخاصة سعر الأرز وهو المحصول الذي تفوقت فيه تايلاند على كل دول العالم لتصبح أكبر مصدر للأرز في العالم منذ منتصف الستينيات. ورغم أن الدعم هو إحدى وسائل مساعدة القطاع الزراعي فإن خبراء اقتصاديين يرون أنه قد لا يكون أفضل هذه الوسائل بالضرورة. يقول البنك الدولي في تقرير صدر في نوفمبر/ تشرين ثان 2007 تحت عنوان "الزراعة والتنمية" إن نظام دعم الأسعار هو النظام المفضل لدى السياسيين عند الحديث عن مساندة القطاع الزراعي لأنه يعطي نتائج مباشرة وسريعة في حين أن الأشكال الأخرى للمساندة مثل دعم الأبحاث العلمية في مجال الزراعة ومشروعات البنية الأساسية في المناطق الريفية لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام لأنها تعطي ثمارها على المدى البعيد ولذلك فهي أقل جاذبية بالنسبة لصناع السياسة. ويلقي البعض اللوم في تناقص الاستثمارات العامة في مشروعات زيادة الإنتاجية الزراعية على المؤسسات التنموية الدولية مثل "البنك الدولي". وتشير تقارير الأممالمتحدة الى إن المساعدات التنموية الرسمية للقطاع الزراعي انخفضت بنسبة 57% خلال الفترة من 1983 إلى 2000 . ففي خلال تلك السنوات تركز الاهتمام الحكومي على الحد من عجز الموازنات العامة للدول وتشجيع الصناعات التصديرية والخدمات إلى جانب توجيه الأموال نحو قطاعي التعليم والصحة. يقول شاميكا سيريماني الخبير الاقتصادي في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادي إن الحكومات تجاهلت القطاع الزراعي في تلك الفترة. وأضاف أن الجانب المضيء في الأزمة الغذائية الراهنة التي تجتاح العالم هو أنها أجبرت الحكومات الآسيوية على إعادة التفكير في تطوير وتنمية القطاع الزراعي. فقد أثبتت الأزمة الحالية أنها أكثر من مجرد نقص مصطنع للمعروض في الأسواق ولا عمليات مضاربة على الأسعار لتحقيق الأرباح، فبشكل عام ستواصل أسعار المواد الغذائية ارتفاعها مادامت أسعار النفط ترتفع. فالقطاع الزراعي يحتاج إلى الوقود لتشغيل الآلات الزراعية ونقل الإنتاج، كما يحتاج إلى الأسمدة الكيماوية التي تعتمد على النفط. ويرى خبراء أن أفضل وسيلة لكبح جماح أسعار الغذاء هي التركيز على زيادة إنتاجية القطاع الزراعي في آسيا لأنه سيؤدي زيادة دخل المزارعين وفي الوقت نفسه سيلبي الاحتياجات المتزايدة للمستهلكين. وقد رصدت الفلبين وهي أكبر مستورد للأرز في العالم مليار دولار لزيادة إنتاجها من الأرز وغيره من المحاصيل الغذائية من خلال دعم الأسمدة وإصلاح أنظمة الري وتخزين المحاصيل إلى جانب تقديم سلالات جديدة من المحاصيل عالية الإنتاجية. يقول روبرت زيجلر مدير عامل المعهد الدولي لأبحاث الأرز ومقره الفلبين إن كل دول آسيا أدركت الآن أهمية زيادة الاستثمار في القطاع الزراعي. وأشار إلى أن أفضل وجهة للاستثمارات العامة في القطاع الزراعي هي مجال الأبحاث والتطوير. وتشير البيانات إلى أن آسيا تخصص 0.4% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق على الأبحاث والتطوير في القطاع الزراعي في حين تصل النسبة إلى إلى 2.36% في الدول الغنية. ورغم الاهتمام المتزايد بالقطاع الزراعي في آسيا فإن التحديات التي تواجهها هذه الدول عديدة بالفعل بدءا بالارتفاع المستمر في أسعار مستلزمات الانتاج وانتهاء بظاهرة التغير المناخي التي تؤثر بشكل مباشر على إنتاجية القطاع الزراعي في العالم ككل. ومع ذلك يبقى الأمل في أن تؤدي الجهود الحكومية المتزايدة من أجل دعم القطاع الزراعي في محاصرة أزمة الغذاء التي يتعرض لها مئات الملايين من سكان آسيا والعالم ككل. (د ب أ)