كان فى القريب يطلق عليه «الذهب الأبيض» لكنه تحول الآن إلى عدوى ويهرب منه الفلاحون، حتى موسم جنيه الذى كان يستقبله الفلاحون بالأغانى وينتظرونه بفارغ الصبر للإنفاق على زواج أبنائهم وستر بيوتهم، أصبح «كابوس» حتى إنهم يهربون منه ويرفضون زراعته بسبب خسائره المؤلمة. بين هذا الكابوس وهذه الذكرى، يعيش القطن المصرى فى جدلية تاريخية، لا يستطيع أحد حلها بسهولة، والغريب أنها تتبلور معاناتها فى عهد وزير الزراعة الذى هو فى الأساس واحد من أشهر تجار القطن لا فى مصر فقط بل فى المنطقة كلها، وكل هذا يتزامن مع سعى أكثر من عشر دول على الأقل لتقديم دعم مباشر للقطن وليس للمغازل كما يحدث اليوم عندنا وفق أحدث تقرير أعده «تيرى تاوسن» المدير التنفيذى للجنة الاستشارية الدولية للقطن، مؤكدا: إن ذلك انعكس على زيادة حصة الإنتاج العالمى للقطن فى الموسم الحالى فى2010 مما جعل المنافسة بين الأقطان غير عادلة فالولايات المتحدةالأمريكية قدمت دعما مباشرا لمزارعى القطن بلغ 1,3 مليار دولار بينما اشترت الحكومة الصينية 7,2 مليون طن من القطن بإجمالى 7,1 مليار دولار، فى الوقت الذى تركت فيه مصر فلاحيها يعانون الأمرين بين تحمل تكلفة إنتاج المحصول الذى أصبح يصل قيمة القنطار الواحد فى المتوسط إلى 6 ألاف جنيه بعد الارتفاع الرهيب الذى شهدته مستلزمات الإنتاج وفى الوقت الآخر عزوف المحالج عن شراء القطن من الفلاحين التى أغلق معظمها بعد غزو الأقطان المستوردة، حزن الفلاحين ولرصد هذه المعاناة التى يعيشها مزارعو القطن زرات روزاليوسف قرية «بنى شبل» التى تبعد عن مركز «الزقازيق»بالشرقية بحوالى 20 كيلو مترا، والتقينا ببعض الفلاحين الذين كانوا يجلسون وتبدو على وجوههم ملامح الحزن أخذ بعضهم يضرب كفاً بكف ويتحسر على أيام زمان والآخر كان يشتكى أن «أرضه حالتها بقت بور» بسبب زراعتها محصول الأرز لعدة مواسم مما أفقد التربة خصوبتها، أما الثالث فكان يحكى أنه عندما كان صغيرا كان يرى والده يزرع وفق الدورة الزراعية والتى كانت تجبرنا على زراعة محصول معين، ويتذكر أنه بالرغم من أننى كنت لا أفضلها إلا أنها أثبتت أهميتها ويكفي أنها تحمى الأرض من الآفات وتزيد من خصوبة الأرض وجودة إنتاجها أما رابعهم فقال وقد ارتسمت على وجهه ملامح الغضب حتى نبرة صوته أتغيرت فجأة وقال وهو منفعل نحن ننتج القطن ونرميه فى المخازن والمصانع تشترى من بره.. ده حرام ولا حلال.. ليه الحكومة مش عايزه تسوقه؟! هو القطن مش صناعة مهمة ممكن تجيب ملايين ولا إحنا عندنا عقدة الخواجة ودايما باصيين لغيرنا؟! واستكمل حديثه بنفس نبرة الحدة قائلا: ما تفعله الحكومة لمساعدة الفلاح هو إغراقه بالديون من خلال بنوك التنمية الزراعية التى لا تساندنا بل تسلفنا بفؤائد مركبة حتى نفقد كل شىء، وكلامهم عن التعاونيات كان زمان موجود أما دلوقتى بقت سوبرماركت لبيع الأسمدة والكيماويات وعلى رأى المثل «الإيد البطالة نجسة». التوقف عن الزراعة انتظرت حتى انتهوا من حديثهم وبدأت حوارى معهم، متسائلة: لماذا توقفتم عن زراعة القطن حتى تقلصت مساحته ووصلت اليوم إلى 300 ألف فدان بعد أن تجاوزنا المليون فدان خلال السنوات الماضية؟ فأجابنى الحاج محمد الشافعى مهاجما الحكومة قائلا: نحن لسنا السبب فى انهيار محصول الإنتاج لأنها منظومة متكاملة بين الفلاح والمحلج والصناعة فى النهاية، فإذا فقدنا حلقة من هذة الحلقات فلن توجد صناعة، فأنا فلاح عجوز عمرى تجاوز السبعين عاما، مهنتى الزراعة أبا عن جد، واليوم وصلت إلى رئيس الجمعية الزراعية المشتركة بالزقازيق، وأنا أب لخمسة أبناء 3 أولاد وبنتين ربيتهم كلهم من محصول القطن اللى كنت بحصده سنويا، فلدى 5 أفدنة ولكن منذ 3 سنوات تقريبا بطلت أزرع قطن فهل من المعقول أن أزرع محصول خسران فلو حسبناها بالورقة والقلم فتكلفة محصول القطن 6 آلاف جنيه حيث يبقى فى الأرض لمدة 6 أشهر نتحمل فيها تكلفة 4000 جنيه القيمة الإيجارية للفدان و2000 جنيه تشمل التقاوى والأسمدة والمبيدات الزراعية حيث ارتفع سعر شيكارة الكيماوى إلى 75 جنيها خلال العام الماضى فقط بعد أن كانت ب35 جنيها، فضلا عن أن أجر العامل اليوم أصبح لا يقل عن 30 جنيها في اليوم، فتكاليف العمالة بقت مرتفعة جدا وعلى أن أتفق معهم مسبقا نظرا لقلتهم،حيث هجر معظمهم الأرض للعمل فى المدينة أو البلاد العربية، وبعد كل هذه المعاناة «تصفصف» إنتاجية المحصول على 7 قناطير للفدان الواحد، وإذا حسبنا العائد الكلى وفقا للتكلفة فلن يزد علي 4 آلاف جنيه بصرف النظر عن أن هذا السعر يتدنى فى الواقع إلى أقل من ذلك. أسعار التكلفة وبانفعال شديد قال الحاج سيد يوسف السيد الذى يتجاوز الخمسين عاما وقد استشاط غضبا: «ياريت الأمور تقف عند هذا الحد» فالمفروض أن أسعار التكلفة تدخل فى سعر البيع ولكن للأسف فى الوقت الذى ارتفعت فيه التكلفة بأسعار مضاعفة فإن الفلاح اليوم لا يجد من يشترى القطن منه، فالمحالج ومصانع الغزل أصبحت هى الأخرى متوقفة عن العمل فلم يعد لدينا فى الشرقية أى محالج، فهناك أكثر من 20 ألف عامل من أبناء المحافظة كانوا يعملون بمحلج «ميت غمر» أصبحوا عاطلين وخرجوا معاش مبكر، ومن جهة أخرى لا نعرف لمصلحة من ترفع الحكومة يدها تماما عن مساندة الفلاح فى إنتاج هذا المحصول الاستراتيجى الذى كان عماد الاقتصاد المصرى؟! فكنا نزرع مثلا فى قرية «بنى شبل» حوالى 1300 فدان فلم نعد نزرع منها ولا فدان منذ أكثر من 5 سنوات تقريبا، وكذلك فى مركز ديرب نجم بالزقازيق كان يتم بها زراعة حوالى 600 فدان فاليوم لا تتجاوز المساحات المنزرعة 20 فدانا، فقديما كان فدان القطن يعطى إنتاجية تعادل 9 قناطير أما اليوم فلا يتعدى 5 قناطيرعلى الأكثر، فمحافظة الشرقية كانت تنتج حوالى 5600 فدان ظلت المساحات المزروعة تتقلص حتى وصلت إلى 2000 فدان المزروع فقط حوالى 600 فدان فى جميع قرى المحافظة، وأكد الفلاحون أن المصيبة الكبرى التى تواجهنا الآن هى ضعف التربة الزراعية نتيجة استهلاكها المستمر فى زراعة محاصيل كالأرز أخلت بالأرض الزراعية خاصة بعد تهالك شبكة الصرف الصحى وارتفاع منسوب المياه الجوفية، وبرغم ذلك تحملنا هذا الوضع وفوجئنا عند بداية زراعة المحصول عدم وجود البذور اللازمة للزراعة أصلا وهى كارثة أخرى فلا توجد فى الجمعيات التعاونية فى الشرقية سوى 440 شيكارة بذور فى الوقت المطلوب زراعة 1000 فدان فى المحافظة، وبالتالى هذا دفع الفلاحين إلى ترك زراعة القطن واتجهوا إلى زراعة الأرز ولكن بعد الخسائر التى حققوها العام الماضى تركوا المحصول فى الأرض بدون جمعه للمستأجر لأن قيمته أصلا لا تغطى إيجار الأرض فقط. بنك المشاكل ولم يختلف معهم الشيخ سيد بيومى كما يطلقون عليه فهو الآخر لم يعد يزرع القطن فيمتلك فدانين يصرف منهما على والدته وأولاد أخيه الذين يربيهم فلم يتزوج وعمره قد تجاوز الأربعين، وقال لنا إن بنك التنمية والائتمان الزراعى خرج عن الهدف المنشأ من أجله، فلم يعد بنكا زراعيا بل تحول إلى بنك تجارى هدفه الربح فى المقام الأول فهو يعطينا أى خدمة بنظام الفوائد المركبة التى توقع الفلاح فى فخ القروض تمهيدا لسجنه، فضلا عن أنها تجبرنا على شراء منتجات قد لايحتاجها الفلاح مثل الأدوية الكيماوية التى تكون فى أحيان كثيرة منتهية الصلاحية فيضطر الفلاح لأخذها حتى يحصل على القرض وكل ده رفع التكلفة على الفلاح بدون فائدة هذا بجانب سرقة الدعم وإعطائه لغير مستحقيه فأراضى الاستصلاح الجديدة الموجودة مثلا فى «الصالحية» والتى يحصل أصحابها على الدعم لا تصلح لزراعة القطن وإنما تتم زراعتها بالفواكه وتدعم الدولة هؤلاء المستثمرين بأسعار الأسمدة والكيماويات حسب الحيازة الزراعية، فمثلا لو أن هناك مستثمرا عنده أرض حيازة ب500 فدان يزرع منها فقط عشرة أفدنة ويصرف كيماوى وأسمدة مدعمة للمساحة كلها ويقوم ببيعها فى السوق السوداء فى الوقت الذى تقوم فية وزارة الزراعة بتحديد صرف الأسمدة والكيماويات المدعمة للمحاصيل الرئيسية كالقطن والأرز والذرة. موسم النكسة وفى السياق ذاته حكى لنا الحاج محمود إسماعيل من قرية «المنيرة» بالزقازيق قصته مع الذهب الأبيض الذى أصبح «فالصو» الذى تحول موسم حصاده إلى نكسة فيقول: لم يعد للقطن قيمة بعد أن انخفض سعره إلى 600 جنيه فقط بالرغم من أنه كان فى التسعينيات بألف جنيه حتى إن إنتاجية الفدان انخفضت من 10 إلى 4 قناطير وده سببه فساد المبيدات وعدم وجود حملات تموينية على تجار المبيدات بل وخلط أصناف التقاوى فى أحيان كثيرة بل الذى زاد الطين بلة إنه لم تعد هناك سلالات طويلة التيلة لعدم اهتمام مراكز البحوث الزراعية بزراعة القطن، وبالتالى لجأت مصانع الغزل والنسيج لاستيراد الغزول المستوردة من الخارج لرخص أسعارها بدلا من تدعيم هذه المغازل فجميع دول العالم تقوم بتدعيم الفلاح وتساعده على تسويق محصوله بدلا من أن تتركه وحده يحارب من أجل استمرار هذه الصناعة. لماذا الإهمال ؟! لماذا أهملنا هذه الزراعة التى كنا نشتهر بها؟ وما الروشتة العاجلة التى قد تساعدنا لإعادة زراعة القطن من جديد، حيث قال لنا «سعيد عبد الستار» رئيس قسم مستلزمات الإنتاج بإدارة التعاون الزراعى: لابد من إلزام الفلاحين بالتركيب المحصولى لأن اختلاف أنواع المحاصيل الزراعية المتجاورة تؤذى التربة الزراعية مع العودة مرة أخرى للدورة الزراعية الثلاثية التى تساهم فى خصوبة الأرض الزراعية وتجديد حيويتها مع ضرورة وضع سياسة خاصة بزراعة وتسويق القطن بحيث يحدث توازن بين العرض والطلب لتحقيق العدالة فى عمليات البيع والشراء مما يتيح فرصة للتجار للتحكم فى الأسعار وبالتالى وصولها إلى أدنى مستوى. دعم القطاع الزراعى بينما طالب «جلال الغرباوى» مدير عام إدارة التعاون الزراعى بإعادة النظر فى السياسة الزراعية لمعالجة السلبيات التى أدت إلى عزوف الزراع عن زراعته، وفى مقدمتها وقف استيراد أقطان من الخارج إلى أن يتم التصرف فى الكميات المنتجة محليا، قائلا: علينا استرجاع دور الدولة مرة أخرى فى دعم القطاع الزراعى أسوة بباقى قطاعات الدولة مع إعادة النظر فى المنظومة القانونية الخاصة بمحصول القطن سواء فيما يتعلق بنظام البورصة أو تحرير تجارته. وأنهى كلامه معنا بأننا علينا أن نشجع مراكز الأبحاث الحكومية والخاصة على تطوير إنتاجية القطن باستنباط سلالات ذات إنتاجية وجودة عالية وبسعر أقل.