اخبارالخليج 27/6/2008 جرت العادة حين يحتدم الخلاف على الحدود بين دولتين تكون الحرب هي العامل الحاسم للخلاف بينهما وتستمر الحرب وتحصد آلاف الضحايا إلى ان تضع أوزارها في لقاء الجانبين والجلوس إلى طاولة الحوار سواء المباشرة أو غير المباشرة مثلما حصل بين العراق وإيران وبين لبنان وإسرائيل. وأحيانا يتصرف الطرفان بعقلانية قبل انفلات زمام الأمور وقبل اشتعال الحرب، فيقبل الطرفان باللجوء إلى المحكمة الدولية في لاهاي للتحكيم في قضية الحدود حيث يقدم كل جانب ما لديه من وثائق تاريخية وتنتهي بقبول حكم المحكمة الملزم للطرفين مثلما حصل بين البحرين وقطر على سبيل المثال. إلا ان الخلاف في الجنوب السوداني وتاريخ اندلاعه ونتائجه يبدو مختلفا بل غريبا في معطياته وحقائقه ونتائجه حين نسمع ونقرأ أن الحكومة السودانية رفضت تقرير لجنة الأزمات الدولية باعتبار منطقة أبيي تابعة للجنوب وعلى إثرها قامت القوات الحكومية مؤخرا بدخول منطقة أبيي وانتشرت فيها.. والغريب فيما نقول دخلت القوات السودانية أبيي فكأنما دخلت أرضا غير سودانية وحينما نقرأ ونسمع الأنباء أن السودان يتجه لرفع قضية أبيي ومصيرها إلى المحكمة الدولية كأنه خلاف بين دولة وأخرى وهذا هو وجه الغرابة في الموضوع. فما هي أسباب الصراع؟ ومن المسئول؟ هل هي الحكومات السودانية التي تعاقبت على حكم السودان منذ استقلاله عام 1956 أم الحكومة البريطانية التي رسمت خريطة جديدة للجنوب فصلت منطقة أبيي عنها عام 1905؟ وكيف وصل الأمر إلى حد أن يهدد بانفصام الشراكة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية في الجنوب ؟ وهل هذا الدفع باتجاه حرية خيار فصل الجزء عن الأم وبذلك يتحول السودان إلى دولتين برئيسين وعلمين وعاصمتين وعملتين؟ أم أن كل ما يجري هو من تخطيط قوى إقليمية ودول الجوار لجر السودان إلى مستنقع أزمة أخرى بعد دارفور التي لاتزال مآسيها عالقة في الأذهان خاصة المجازر والاعتداءات التي قامت بها الجنجاويد من دون ردع قوي لها باعتبارها قوات شبه حكومية ولم يتم انهاء عودة النازحين وتعويض المتضررين وغيرها من أساسيات عودة الأمن إلى دارفور؟ وبعودة إلى لمحة تاريخية للسودان نجد أنه كان تحت الانتداب البريطاني مطلع القرن العشرين، وقد قامت بريطانيا برسم خريطة جديدة للسودان سنة 1905 فصلت فيها منطقة أبيي عن مديرية بحر الغزال بالجنوب وضمها إلى مديرية كردفان بالشمال وبهذا وضع المستعمر البريطاني قنبلة موقوتة وزرع نبتة الخلاف بين أبناء الشعب السوداني المتعدد الديانات والثقافات والقبائل حيث تقطن الشمال قبائل عربية مثل الجعليين والشايقية والدناقلة والمحس أي من يطلق عليهم ب(النوبة) وهم قبيلتان تنحدران من اصول فرعونية والسيكوت وجزء من قبيلة البشريين فيما يقطن الجنوب قبائل غير عربية منها الدينكا التي ينحدر منها جون قرنق زعيم التمرد في الجنوب الذي توفي سنة 2006 بالإضافة إلى قبائل الشلك والنوير وجزء من قبيلة اللاتوكا حيث تنتشر باقي القبيلة بين كينيا وأوغندا. وفي الحقيقة ما يحيرني هو: هل يمكن احتساب منطقة في بلد معين على منطقة أخرى في البلد نفسه سلخا لها ولهويتها؟ حيث نتساءل (وما الضرر والضرار كما يرددهما الإسلاميون في تعابيرهم) أن تكون أبيي جنوبية أم شمالية طالما بقيت أرضا سودانية؟ وأن الرسم أو القرار يتعلق بحدود داخلية في السودان وليس حدودا مع دولة أخرى من دول الجوار؟ ومن الواضح أن العقلية التي تحكم سواء في الشمال أو الجنوب ترى خلاف ذلك، ومن هنا جاء رفض الحكومة السودانية قرار لجنة الخبراء بعودة منطقة أبيي إلى الجنوب. والصراع في جنوب السودان بدأ قبل استقلال السودان بسنة واحدة أي في عام 1955كبداية تاريخية لظهور الخلاف في الجنوب إلا ان الحكومات المتعاقبة على كرسي الحكم في السودان خلال الخمسين سنة الماضية لم تعمل جادة على حسم الخلاف بطريقة عقلانية ومنصفة ووضع الطبيعة الديمغرافية والدينية والاثنية بعين الاعتبار وحق تقاسم الحكم والثروة بين الجميع. وفي هذا الصدد تقول مصادر موثوقة ان الإعمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان بعد مرحلة الاستقلال تركزت حول المركز أي العاصمة الخرطوم وضواحيها وأهمل كل من الشمال وتقطنه غالبية عربية من قبائل متعددة وأهمل كذلك الجنوب الذي تسكنه قبائل الدينكا وهي قبائل افريقية. والإهمال هنا يعني التهميش ويقصد به أولا: إبعاد سكان المنطقتين عن المشاركة الفاعلة في حكم السودان.. ثانيا: إهمال الحكومات المركزية التي تعاقبت على الحكم بناء بنية تحتية متطورة تشمل شبكات المياه والصرف والطرق والجسور وتوصيلات الكهرباء والماء إلى القرى والمدن والضواحي خاصة منطقة الجنوب بل يقال ان مناطق لا تبعد كثيرا عن العاصمة أهملت أيضا وأصابها لهيب التهميش.. ثالثا: لم تعمل الحكومات المتعاقبة منذ استقلال السودان على تقاسم الثروات الطبيعية بالإنصاف.. وأخيرا لم تحسم السلطة المركزية علاقة الدولة بالدين. صحيح أن السودان دولة عربية مسلمة ولكنه أيضا دولة افريقية وتسكنه قبائل غير عربية وغير مسلمة خاصة في الجنوب.. وتذكر المصادر أن الرئيس إبراهيم عبود الذي حكم السودان من عام 1958 إلى 1964 حاول فرض الدين الإسلامي على أهالي الجنوب تحت شعار( تعريب وأسلمة الجنوب) من خلال المناهج الدراسية وغيرها.. والمأخذ على هذه الخطوات أنها لم تأخذ بعين الاعتبار أن هناك تنوعا بين المواطنين، تنوعا في الدين والثقافة والأصل والقبيلة مما أثار مخاوف لدى أهالي الجنوب بأن هناك توجها من الحكومة المركزية التي يسيطر عليها الشماليون لإبعادهم عن دينهم وثقافتهم. ولمعرفة المزيد عن هذه القضية وأثر التنوع في الشعب السوداني تحدثت مع بعض الإخوة السودانيين ممن أعرفهم منذ زمن طويل وفي أكثر من موقع عمل حول هذا التنوع غير المتجانس في لونه وأطيافه ولكنه من جهة أخرى متجانس ضمن الهوية السودانية ذكروا فيه أن سكنة الجنوب لا يرفضون الدين الإسلامي كدين وإنما يرفضون محاولات التغيير التي تجرى بالقسر وتهميش الأديان الأخرى وطالبوا بالاعتراف بدينهم سواء كانوا مسيحيين أو وثنيين وتجاهل هذا الواقع أفرز حركة التمرد في الجنوب. وينبلج هنا سؤال آخر : ما الذي دفع بالحكومات السودانية المتعاقبة منذ استقلال السودان إلى عدم أخذ هذه الفروق بعين الاعتبار وإعطاء كل ذي حق حقه وعلى اساس المواطنة السودانية؟.. وأرى أن هذا التنوع الديني والثقافي والعرقي إنما هو هبة حسنة من الله سبحانه.. وهو نعمة وليس نقمة منه بأن جعل هذا الشعب متنوع الثقافات على أرض متنوعة المصادر الطبيعية من الزراعة والثروة الحيوانية والغاز والنفط والماء.. وكم السودان جميل بهذا التنوع البشري والطبيعي في أرض شاسعة المساحة الجغرافية! ودعونا نعود لمحور الخلاف الدائر حاليا بين الحكومة السودانية ممثلة في الرئيس عمر البشير وبين حركة الجنوب برئاسة سلفاكير ميادريت نائب الرئيس السوداني الذي جاء على إثر إعلان لجنة خبراء الأزمات الدولية تبعية مثلث أبيي الغني بالنفط إلى الجنوب مما أثار غضب الحكومة في الخرطوم ودفع قواتها إلى داخل قرى وضواحي أبيي فيما أعربت لجنة الخبراء عن أن رفض الحكومة السودانية يعبر عن سعيها لتأزيم الموقف ويدفع باتجاه التصعيد ويهدد بتوقف خطوات السلام بين الحكومة السودانية والحركة في الجنوب.. ولا يمكن هنا إغفال عامل وجود النفط من هذا الصراع حيث أينما وجد النفط في باطن الأرض طفح الصراع على سطحها.. وعلى هذا الأساس يصعب استبعاد مسألة تفاقم الخلاف وحسمها بالسلاح بين الطرفين المتنازعين. كما يهمنا أن نشير إلى أن إحدى الدراسات التي نشرت على الانترنت «موقع الجزيرة« أفادت ان الخلاف على منطقة أبيي إنما هو جزء من عدة نقاط خلاف بين الطرفين شملت تقاسم السلطة والثروة والعاصمة القومية والعملة الوطنية والمناطق المهمشة وهي (جبال النوبة وأبيي والنيل الأزرق بالجنوب). ولقد اتخذ قرار قبل به الطرفان أثناء حوارهما في منتجع نيفاشا بكينيا بتأجيل الحوار حول المناطق المهمشة بالجنوب ومن ضمنها أبيي وفي غضون السنوات الخمس القادمة يترك مصير أبيي إلى خيار سكانها شرط أن تباشر الحكومة السودانية إعمار هذه المناطق وتطويرها. من المفيد ان نشير هنا إلى أن مثلث أبيي تسكنه قبيلة الدينكا وتعايشت مع قبيلتي المسيرية والزرقيات العربيتين منذ أكثر من 300 سنة وعاشوا في وئام وسلام إلا أن حركة التمرد في الجنوب حين اندلعت استطاعت أن تكسب عناصر من قبيلة الدينكا للقتال في صفوفها ضد الحكومة المركزية في الخرطوم وبالمقابل استطاعت الحكومة السودانية هي الأخرى تجنيد عدد كبير من أبناء قبيلتي المسيرية والزرقيات للقتال في صفوفها ضد حركة التمرد في الجنوب وبهذا حل الخلاف والشقاق بدل الحب والوئام بين أبناء أبيي. والغريب في الأمر أن عددا كبيرا من قادة الجيش السوداني هم الآن من قبيلة المسيرية في أبيي وقادة حركة التمرد في الجنوب هم من قبيلة الدينكا في أبيي أيضا.. أليس في الأمر مفارقة.. وطرافة؟ وخلاصة القول: هل ما يجري من أحداث في أبيي تجاوز من حكومة البشير ضد أهالي أبيي؟ أم هو استباق لنتيجة الاستفتاء على تبعية الإقليم خلال السنوات القليلة القادمة يحتمل فيه أن يختار أهالي أبيي الالتحاق بالجنوب وبالتالي خسارة لمخزون النفط والغاز؟ أم أن القيادة السودانية تشعر بوجود مخطط جديد للسودان لإضعاف وحدته وتجزئة أرضه والتكالب عليه بأزمة وراء أخرى كتكالب الأكلة على قصعتها ضمن مشروع (السودان الجديد) من منظور القوى الكبرى وما يتطلب ذلك من تخريب لنموذج حي لتمازج عربي افريقي تعايش مئات السنين تمهيدا لتحجيم موقع السودان الاستراتيجي في القرن الافريقي؟ هذه أسئلة كبيرة تحتاج إلى حيز آخر من الحوار وما قدمناه هنا عبارة عن إجابات بسيطة لما يجري في منطقة ابيي حاولنا إماطة اللثام عبرها عن بعض من جوانب الصراع فيها، وأسباب موقف كل من الحكومة السودانية والجبهة في الجنوب قد تنال رضا البعض وقد تزعل البعض وذلك لحساسية موضوع أبيي كونها جزءا من الجنوب وبغض النظر عن تبعية أبيي فإن استقرار وأمن السودان الموحد يجب أن يكونا شعلة منيرة للطرفين.