الحياة فى19/6/2008 حدث المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد في مكة برعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز مر إعلامياً بين أحداث كثيرة متلاحقة هذه الأيام. لكنه، وفي ضوء المبادئ الإسلامية الفكرية التي صدرت عنه، سيبقى حدثاً انعطافياً في مسيرة الفكر الإسلامي الذي هو بأشد الحاجة إلى تجديد في مستوى تحديات الواقع والعصر. لقد انبثقت حركات إصلاحية وتجديدية عديدة منذ مطلع العصر الحديث من الأزهر والنجف، ومن الهند، وإيران وتركيا، لكن أن تصدر الأفكار والمبادئ المعلنة عن مؤتمر الحوار الإسلامي بمكةالمكرمة وبالنبرة التجديدية اللافتة فذلك هو الجديد والانعطاف الذي لم يحدث من قبل. تعود المسلمون أن يسمعوا من مكةالمكرمة، وهي قبلتهم الواحدة، حديثاً محافظاً شديد المحافظة... وذلك أمر طبيعي بمعيار المناخ الفكري السائد في عصور سابقة. ولكن أن يسمع المسلمون اليوم، ومن مكةالمكرمة بالذات، حارسة الإيمان والعقيدة التي لا يعلو عليها أي مرجع، حديثاً عن الحوار مع الأديان والحضارات والثقافات والفلسفات الوضعية، ودعوة إلى التفكير الناقد الموضوعي فذلك تطور لا يمكن التقليل من شأنه ويجب أن يعطى التقييم الذي يستحق وأن يبني عليه المفكرون الإسلاميون أركان النهضة التي بها يحلمون. وبحضور مختلف ألوان الطيف الإسلامي بما في ذلك حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني الذي أحسن الملك عبدالله بدعوته. وأكاد أتصور مفكري نهضتنا الأولى: من الأفغاني إلى الأستاذ الإمام محمد عبده، إلى عبدالرحمن الكواكبي إلى محمد اقبال منتعشة أرواحهم اليوم وهم يستمعون إلى «نداء مكة» الذي حلموا بمضامينه وهم يعملون في سبيل النهضة... والواقع إننا لا نريد المبالغة، فالمبالغة غير مستحبة في ظروفنا الراهنة، ويمكن أن تضر أكثر مما تنفع، لكني أعتقد بأمانة إن هذا النداء المكّي المنعش يردد أصداء الرسالة الإسلامية الأولى في فجر الدعوة. فقد جاءت تلك الرسالة لتنهض بالعرب، وتعمل على تحضيرهم، وتفتق أذهانهم حيال الأقوام والأديان والحضارات الإنسانية التي كانوا في غفلة عنها، وذلك جانب خطير من «الجاهلية» التي ثار ضدها الإسلام. وعندما قال ذلك العربي لكسرى معرفاً بالإسلام الذي سأله عنه: بأن «الإسلام جاء ليخرجنا من ضيق الدنيا إلى سعتها»، كان في حقيقة الأمر يعبر بصدق عن حقيقة الدعوة الإسلامية وجوهرها الإنساني التحرري ويظهر الغرس الطيب لتلك الدعوة في أعماقه. وللأسف فقد أصبح الوضع السائد اليوم هو العودة بالإسلام القهقرى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فأي قلب للحقيقة... وأي إزراء بدين الله! وفي تقديرنا، فإن أي تجديد في الفكر الإسلامي لن يكتب له النجاح إلا إذا أصر على العودة من جديد إلى سعة الدنيا... الدنيا التي نعيشها بجديدها وتحولاتها ورياحها القادمة من الجهات الأربع. ولا أدري لماذا وكيف نشأ في ذهني ارتباط قلق بين مبادئ مؤتمر الحوار الإسلامي بمكةالمكرمة، ومحاولة تركيا المسلمة دخول المنتدى الأوروبي في وجه معارضة تتنامى ضد دخولها في بعض أنحاء أوروبا المتراجعة راهناً للأسف إلى هواجس التاريخ وكوابيس الماضي. عندما يتم رفض تركيا بملايينها الثمانين وثقلها المتوسطي، أي قيمة تبقى لمشروع «الاتحاد المتوسطي» الذي يتصدى البعض بحماسة للدعوة إليه، ويتصدى بحماسة - أيضاً لرفض انضمام تركيا إلى جوارها الأوروبي؟ مر العقل الأوروبي بمسيرة تاريخية طويلة وشاقة تقبل خلالها الإصلاح البروتستانتي إلى جانب العقيدة الكاثوليكية في تعايش بينهما لم تحل دونه الحروب الدينية الطاحنة من قبل. ثم تقبل العقل الأوروبي اليهودية وبرأ الفاتيكان اليهود من دم المسيح وفتح باب الحوار معهم. وينفتح الأوروبيون المتعطشون اليوم لروحانية منقذة على روحانيات الشرق البعيد من بوذية وكونفوشية وهندوكية... الخ. وفي أثناء هذه «الانفتاحات» المتتالية كان الفكر الغربي الحديث يتحرر من السيطرة الكنسية على الروح والعقل ويفسح للدين وللحرية الدينية مجالاً خصباً نأمل أن تحافظ أوروبا على مبادئه في تعاملها مع الآخرين. فهل يعجز العقل الأوروبي، بعد هذه التحولات كلها عن تقبل الإسلام والتسامح معه؟! هذا هو السؤال الملح الذي علينا كمسلمين توجيهه الى الأوساط الأوروبية، الدينية منها خاصة، وصولاً إلى البابا. ما الذي حدث ليتقبلوا، مرحلة بعد أخرى، الثورة البروتستانية، ثم يتجاوزوا العداء التاريخي بينهم وبين اليهود، وقد اضطهدتهم قوى مسيحية محافظة كالنازية الألمانية إلى حد الحرق، وقذفوا بالبقية إلى أبرياء لا جريرة لهم، هم وأطفالهم، غير توطنهم، منذ قرون، في فلسطين المعتبرة أرض الميعاد اليهودي، وأحياناً المسيحي. والإسلام الذي يتضمن قرآنه تلك الإشادات الرائعة بالمسيحية، ويؤكد كل الاحترام والتوقير لعيسى المسيح عليه السلام وأمه مريم العذراء، متخذاً في الوقت ذاته ولأول مرة في تاريخ الأديان - كما اعترف برنارد لويس - وهو غير محب للإسلام، بل متحيز ضده، موقف الاعتراف بالديانات السماوية في ظله، تعبداً وتشريعاً وتعايشاً سمحاً... هل يعجزون عن إنصافه؟ لا نريد في الواقع أن نربط بالضرورة بين مستقبل المشروعين: مشروع الحوار الإسلامي الشجاع المنطلق من مكة، والمشروع التركي للانضمام إلى النادي الأوروبي. والواقع، ان من يفكرون في إطار الشكليات سيعتبرون المشروع التركي توجهاً لذوبان شعب إسلامي في البحر المسيحي الأوروبي. (ومن منطلق تفكيرهم هذا لا نستبعد معارضتهم لمبادئ الحوار المكي الإسلامي في حد ذاته!). فالمشروع السعودي غير مرتبط أو ملتزم بجزئيات التجربة التركية، لكن ظهوره الآن في وقت تعود فيه تركيا إلى جوهرها علامة دالة على انبعاث إسلامي معتدل يسعى للتعامل مع عصره، ولنقل: - إن تركيا منذ مطلع العشرينيات والتحاقها بأوروبا والغرب وانضمامها إلى حلف الأطلسي، في ظل علمانية صريحة مكشوفة في حينه، لم تذب هويتها الإسلامية. واليوم، عندما تقود تركيا حكومة إسلامية مجددة وحزب إسلامي ورئيس يقر له الجميع بالاعتدال والمحافظة، وذلك بعد أن قاومت تركيا عبر عقود تغيير هويتها فعادت إلى جوهر تلك الهوية من جديد! نقول اليوم لا خوف من دخول تركيا المنتدى الأوروبي على أساس الشراكة المتكافئة، وطبقاً للدستور والقوانين والأنظمة التي تحكم الاتحاد الأوروبي بين أعضاء يتمتعون بالسيادة والشخصية المستقلة. أما إذا نجحت قوى التعصب الأوروبي، فسيبقى المنتدى الأوروبي نادياً منغلقاً للرجل الأبيض المتعالي، ولن يكون ذلك في صالح أوروبا والإنسانية. نقول إن حدث هذا الخطأ التاريخي الفادح فنعتقد أنها القطيعة الفكرية والنفسية والعملية بين أوروبا والعالم الإسلامي. وسيحصل المتطرفون من الجانبين على ذخيرة يحلمون بها لتأكيد الشقاق الذي يهدفون إليه بين الجانبين وستكون خسارة المسلمين فادحة، اذ ستنغلق في وجوههم أبواب أرقى الجامعات ومراكز البحث في العالم. إنه لمن المفجع أن تقع أوروبا - إن وقعت - في هذا الخطأ في وقت يصدر فيه نداء عاقل وجريء من مكةالمكرمة، قدس الإسلام، وفي وقت بدأت تعود فيه تركيا إلى هويتها الإسلامية باعتدال يراعي خصوصية تجربتها، ويعمل قادة في الجانب الأوروبي على إقامة الاتحاد المتوسطي الذي ينبغي على أي مسلم أن يتفهم خلفيته الحضارية، فقد كان المعبر الحضاري لفكر ابن سينا وابن رشد وابن خلدون وسواهم من عباقرة الحضارة الإسلامية إلى الجامعات الأوروبية التي أسهمت في النهضة الأوروبية.