دار الخليج: 13/6/2008 الرئيس الأمريكي بوش يبدو سعيداً للغاية هذه الأيام وهو يرى ما يرى في أوروبا. وهو على حق. فالقارة تغيّرت بشكل جذري عما كانت عليه قبل خمس سنوات: لا جدالات واتهامات عنيفة بينها وبين محافظي بوش الجدد الذين كانوا يتهمونها، وبسبب سياساتها غير المستندة إلى القوة، أنها تعيش في المريخ فيما أمريكا تقطن الزهرة. والصراع حول مسألة حرب العراق التي تسببت بشرخ كبير، يكاد يصبح جزءاً من الماضي، وكذا كيفية التعاطي مع الملف الإيراني وتغيّرات مناخ الأرض. إضافة إلى ذلك، وصل إلى السلطة في الدول الأوروبية الكبرى الثلاث رؤساء يجهرون بولائهم لامبراطورية بوش: نيكولاي ساركوزي في فرنسا، أنجيلا ميركل في ألمانيا، وسيلفيو بيرليسكوني في ايطاليا، واختفى عن المسرح جاك شيراك وجيرهارد شردور اللذان سببا الكثير من أوجاع الرأس لواشنطن بسبب نزعتهما الاستقلالية. يحق لبوش، إذاً، أن يكون سعيداً. وهو سيستثمر هذه السعادة ليس فقط بالاستمتاع بصيف أوروبا اللطيف، بل أيضاً بحفز الأوروبيين على اتخاذ اجراءات أكثر حزماً ضد ايران وطالبان، وأكثر دعماً ل "إسرائيل" وحلف الأطلسي. لكن، هل أوروبا سعيدة أيضاً؟ لا يبدو أن الأمر كذلك. صحيح أن تراجع التوتر على ضفتي الأطلسي أراحها من قرارات صعبة في السياسية الخارجية كان يمكن أن تكرّس انشطارها إلى "أوروبا قديمة" و"أوروبا جديدة" (حسب تعبير دونالد رمسفيلد)، إلا أن ذلك لم يساعدها لا على بلورة شخصيتها المستقلة كدولة عظمى، ولا على فرض وجودها المستقل على الساحتين المحلية الأوروبية والخارجية الدولية. القارة العجوز لا تزال تعاني بشدة من ثلاث أزمات متلازمة: حدود الاتحاد الأوروبي، وسلطاته وصلاحياته، وطبيعة المشروع الأوروبي العالمي. الأزمة الأولى واضحة المعالم. فأوروبا لا تعرف بعد من هي، ولا أين تبدأ وتنتهي حدودها. وبما أن الحدود هي حجر الزاوية لبناء الهوية، وبما أن هذه الحدود تتوسع مرة لتضم مناطق شاسعة ومتنافرة العادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والايديولوجيا بما في ذلك تركيا الاسلامية، وتضيق مرة أخرى لتقتصر على أوروبا الغربية، فإن الهوية الأوروبية لا تزال في علم الغيب، برغم الإنجازات الكبرى التي تحققت عبر الوحدة الاقتصادية. وكما الامر مع الحدود، كذلك مع السلطة. فالفجوة بين السلطات الاتحادية في بروكسل والسلطات القومية في الدول الأعضاء لا تزال ضخمة، الأمر الذي دفع جاك ديلور أحد آباء الوحدة الأوروبية إلى الدعوة لتحويل القارة من "اتحاد أوروبي" إلى "اتحاد للدول القومية". ثم هناك أخيراً قضية المشروع. فأوروبا لا تعرف النموذج الذي يجب أن تقدمه إلى العالم والذي يفترض أن يضعها على قدم المساواة مع أمريكا والصين واليابان والهند والبرازيل وروسيا: هل هي أوروبا القانون الدولي والامم المتحدة وشرعة حقوق الانسان، أم هي أوروبا القوة وموازين القوى؟ هذه الأزمات مثلثة الرؤوس لا تزال تعمل على تحويل العملاق الاقتصادي الأوروبي إلى قزم سياسي وعسكري. لا بل هي باتت تهدد في كل لحظة بفرط الاتحاد الأوروبي نفسه كما نعرفه الآن. وهذا بالطبع هو كل ما تريده الولاياتالمتحدة، لأنه ببساطة يجعل القارة القديمة مجرد جرم يدور حول القارة الجديدة بواسطة حبل متين اسمه حلف الاطلسي. وهذا أيضاً ما نجحت واشنطن إلى حد كبير في تحقيقه خلال السنوات الخمس الأخيرة. فهل ثمة مجال بعد للاستغراب، حين نجد بوش يتنقل بسعادة الفراشة بين باريس وبرلين وروما؟