خلال الجلسة التي أعدتها قناة «العربية» ضمن جلسات منتدى الإعلام العربي الذي استضافته دبي في شهر إبريل الماضي لمناقشة «وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي» التي أقرها وزراء الإعلام العرب قبل أربعة أشهر تحدث مدير أخبار القناة نخلة الحاج بصراحة لافتة عن «دور المال السياسي في فرض أجندته الخاصة على الخطاب الإعلامي للمحطات الفضائية الإخبارية العربية عموماً»، وشدد على أن تحرر هذا الخطاب بشكل حقيقي وفعال يكمن في التخلص من هذا التمويل والعمل على تأمين مصادر أخرى. أيام قليلة تلك التي فصلت الجلسة عن انفجار الأزمة اللبنانية على هيئة اشتباكات مسلحة بعد عامين من التأزم.. قد لا يبدو وجود أي روابط بين الحدثين للوهلة الأولى، إلا أن ما تم نقاشه خلال الجلسة من جهة، وإغلاق مسلحي »حزب الله« وحركة «أمل» لإحدى أهم المؤسسات الإعلامية في لبنان، والمملوكة من قبل رئيس تيار الغالبية سعد الحريري، قد يوضح أسباب هذا الربط. عكست الندوة حدة الخلاف بين رأيين يقفان على طرفي نقيض، ليس من موضوع «وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي» التي أجمع الغالبية على رفضها باستثناء مدير عام اتحاد إذاعات الدول العربية، وإنما بشأن موقف الإعلام العربي من القضايا الكبرى المطروحة على الساحة العربية عموماً، وارتهان هذا الإعلام لمشاريع ورؤى سياسية متنافرة، بعيداً عن الدور التقليدي الذي من المفترض أن يضطلع به. كلام نخلة الحاج عن ضرورة التخلص من المال السياسي بدا غير مألوف لدى الحضور، على اعتبار أن القناة التي يدير أخبارها تمثل أكثر المحطات المتهمة بالتحيز تبعاً لرأسمالها السعودي. وتسبب ذلك في امتعاض كبير من قبل بعض الحضور، كاد يتحول إلى مشادة كلامية مع رئيس تحرير إحدى الصحف اللبنانية المحسوبة على حزب الله. بعد انتهاء الجلسة، أقفلت الوفود عائدة إلى بلادها تاركة إشارات استفهام حول مستقبل الإعلام العربي، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل بدء المنتدى. فالجلسات وورش العمل والحوارات الجانبية عكست مسألة على غاية من الأهمية، وهي أن الإعلام العربي بكافة أشكاله، وتحديداً الفضائي منه، بات سلاحاً أساسيا في المعركة السياسية المفتوحة على مزيد من التصعيد بين الأطراف المتصارعة بشأن مستقبل المنطقة. لم يكد رئيس تحرير صحيفة «تشرين» الرسمية السورية عصام داري الذي حل ضيفاً على المنتدى يصل إلى دمشق، حتى أفرد افتتاحية صحيفته لموضوع بعنوان: «وجبات مسمومة»، قام خلاله بتوجيه انتقاد حاد اللهجة لإعلام قناة «العربية» وما يشبهه، واصفاً إياها «بتبني الأكاذيب والافتراءات الأميركية»، مؤكداً أن هدفهم هو «تشويه صورة سورية ومواقفها مع بهارات من الحقد والشماتة والتحامل». رئيس تحرير تشرين كان تعرض خلال إحدى ورشات العمل التي جرت على هامش المنتدى إلى انتقادات حادة بشأن أداء الإعلام السوري و«استمرار اعتقال الصحفيين من قبل حكومته»، وكان من أشد المنتقدين له مديرة الجلسة الصحفية والمذيعة في قناة «العربية» نجوى قاسم التي فندت بحدة محاولات داري التأكيد على أن المعتقلين تم حبسهم لأسباب لا علاقة لعملهم في الصحافة. بعد بضعة أيام على ذلك وقع الطلاق في لبنان بين المعارضة المدعومة من سوريا وإيران، والموالاة المدعومة من السعودية ومصر والغرب، على خلفية إصدار الحكومة القرارين المتعلقين بإقالة مدير أمن المطار وتجريم شبكة اتصالات «حزب الله» كما بات معروفاً. وبدا واضحا كيف أن الإعلام اللبناني والعربي المعني بالأزمة اللبنانية بات جزءاً أساسياً من حملة التجييش التي مارسها الفريقان لحشد الرأي العام، فاصطفت قنوات: «المنار» و«NBN» وتلفزيون «الجديد» و«OTV» بالإضافة طبعاً للتلفزيون السوري الذي بدا محتفياً بانتصارات المعارضة على «ميليشيا تيار المستقبل» في جهة المعارضة. فيما تخندقت قناة «المستقبل» و«العربية» وإلى حد ما «المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC» إلى جانب الموالاة. وكان أولى ضحايا المواجهات هو وسائل إعلام «تيار المستقبل» التي يملكها النائب سعد الحريري والمتمثلة في «تلفزيون المستقبل بمحطتيه، وصحيفة المستقبل وإذاعة الشرق» إذ تم إغلاقها جميعاً، فضلاً عن إحراق بعض مكاتبها. ولم يكلف أي مسؤول من المعارضة نفسه عناء القيام بتوضيح أسباب الإقدام على هذه الخطوة أو حتى تبرير أسبابها، مع علمه المسبق بإمكانية نقل البث بسرعة فائقة لاستديوهات أخرى خلال فترة وجيزة، وبالفعل لم تكد تمض بضعة أيام حتى عادت وسائل الإعلام المذكورة للبث والصدور من الضاحية الشرقية لبيروت، بلهجة أشد مما خلفها مسلحو المعارضة. إلا أن الحدث بحد ذاته كشف حجم الصداع الكبير الذي يتسبب به إعلام «الحريري» للمعارضة اللبنانية ومن يقف وراءها، لتقدم على هذه الخطوة بقيادة «حزب الله» الذي عرف بحساباته الدقيقة قبل الإقدام على أي مغامرة من هذا النوع. كل ذلك يفتح الباب واسعاً لعودة التساؤل والنقاش حول وضع الإعلام العربي في ظل استئثار رأس المال المرتبط بمشاريع سياسية بالمحطات الفضائية الإخبارية في الساحة العربية، وفرض أجنداته الخاصة عليها، وذلك بعد أن استبشر كثر بتحرر هذا الإعلام من ربق الخطاب الإعلامي الرسمي الأحادي الذي وصم حقبة امتدت منذ ما بعد الاستقلال وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي. وبدون مبالغة فإن نظرة على واقع الإعلام العربي تكفي لإعطاء صورة واضحة للغاية عن الصراع الذي تشهده المنطقة على كافة مستوياته، كون غالبية هذا الإعلام ممولاً من قبل إثنيات وطوائف وأنظمة وحكومات عربية وأجنبية لها أجنداتها الخاصة التي باتت تجاهر وتفاخر بها علناً. ولا يتعلق الحديث هنا عن إعلام بعينه فالكل في الأزمات سواء، لكن إذا كانت الحال في الإعلام الحكومي قابلة للهضم، فيفترض أن لا تكون كذلك في حالة الإعلام الخاص. إذ أن هذا الأخير في حالته الراهنة لا يعبر عن نشاط رأسمال تجاري وإنما سياسي يعبر عن وجهة نظر المستثمر، وهو أمر يبقي هذه المؤسسات مرتهنة لهذا المستثمر «السياسي» إن بشكل مباشر «تمويل» أو غير مباشر «إعلان تتحكم به الدولة». ويمكن إرجاع ازدياد حدة وشراسة الخطاب الإعلامي العربي حالياً إلى اشتعال الصراع السياسي في المنطقة منذ فترة ليست بالقصيرة، ويمكن ردها بشكل مباشر إلى 14 فبراير 2005 تاريخ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. إذ حتى ذلك التاريخ ظل هذا الخطاب متخفياً وراء مقولات الحياد، لأسباب تتعلق بعدم رغبة الأطراف التي تقف وراءه بتفجير الخلاف على نحو أوسع. إلا أن حدث الاغتيال بضخامته فجر أزمة سياسية كبيرة في المنطقة، دفعت الأطراف المعنية إلى الاصطفاف بشكل حاد على طرفي نقيض، ما انعكس على إعلام كل طرف بشكل فج، تمثل باستخدام كل التقنيات المتاحة لشيطنة الآخر وكشف مؤامراته وارتباطاته ومآربه، حيث سقطت كل المحرمات ليعلو صوت التخوين على كل ما عداه. وربما لن يحتاج كبار السن كثيراً لربط صورة الخطاب الإعلامي العربي اليوم بذاك الذي كان سائداً عشية وخلال وبعد هزيمة يونيو 1967، مع فارق بسيط أن ذاك الإعلام كان حكومياً سبق عصر الفضائيات وثورة الاتصالات، فيما إعلام اليوم يستنسخ تلك التجربة في عصر القرية الكونية. ويكشف ذلك زيف وهشاشة الادعاء بأن الإعلام العربي استطاع خلال العقد الماضي تحقيق نقلة نوعية باتجاه التحرر من سيطرة الحكومات، ليمارس الدور المنوط به كما في غالبية دول العالم. وربما المفارقة الوحيدة أن إعلام اليوم بات أكثر قدرة على التأثير في الرأي العام مما كان عليه الحال أيام الخطاب الرسمي الأحادي الذي اضطر متلقوه إلى ابتكار شيفرات عكسية لتفسيره، إذ أثبتت الفضائيات الإخبارية جدارة تستحق ثناء الممولين للقائمين عليها. حيث استطاعت تحقيق جزء كبير من أهدافها عبر إعادة تكوين الرأي العام بما يتوافق مع مقولاتها، وما تغير صورة المقاومة اللبنانية التي كانت تتمتع بحصانة تقارب حد القداسة في العام 2000 إلى سلاح بيد أطراف خارجية إلا صورة بالغة الدقة عن هذا النجاح. وهو أمر لاقى بالمقابل خطاباً أكثر تشدداً من قبل الفريق الآخر الذي ركز كل خطابه على كشف تبني منتقديه للمشروع الأميركي تارة والإسرائيلي تارة أخرى، والنتيجة مزيد من الاصطفاف الذي قد يؤدي إلى نتائج قد لا تحمد عقباها. وبالعودة إلى جلسة العربية التي ذكرنا سابقاً أنها خصصت في الأساس لمناقشة «وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي» فإن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا يصر غالبية القائمين على الفضائيات العربية على ضرورة رفض هذه «الوثيقة» بحجة أنها تتيح للحكومات السيطرة على الإعلام الخاص؟ إذا كانت هذه القنوات تستعير أصلاً من الإعلام الحكومي كل آليات خطابه أثناء اشتداد الأزمات. ولا يعني هذا الامر على أية حال صحة موقف وزراء الإعلام العرب بوضع «وثيقة لتنظيم البث الفضائي» من عدمه، إلا أن أداء الفضائيات العربية لا يتيح الكثير من المجال للقائمين عليها للدفاع عن موقفهم الرافض بحجة الاستقلالية. أزمة سوق - الكعكة الإعلانية لا تكفي يقدر الإعلامي العربي جهاد الخازن أن أي محطة فضائية إخبارية تتكلف وسطياً بين 100 إلى 150مليون دولار سنوياً، فيما لا تستطيع أهم المحطات الموجودة حالياً تحقيق عائدات إعلانية تتجاوز 20 مليون دولار في أحسن الأحوال، وهو ما أعاق تعثر تجربة الحياة LBC واقتصارها على فترة بث محدودة. وتساءل الخازن في حديث مع «البيان» عن كيفية تطور الإعلام العربي إذا كان مجمل الدخل الإعلاني العربي لا يتجاوز حتى اليوم دخل صحيفة غربية ك «نيويورك تايمز». ويعيد نقيب الصحافيين المصريين مكرم سيد أحمد أسباب ذلك إلى خلل بنيوي في المجتمعات العربية، سببه غياب الطبقة الوسطى بسبب سياسات الأنظمة العربية طيلة العقود الماضية. ويرى الباحث المصري محمد السيد سعيد أن «سوق الإعلام العربية لا تزال تابعة للدولة بامتياز، وتعبر أساساً عن نشاط رأس المال السياسي»، فاقتصاد السوق ضعيف لدرجة تجعل الكعكة الإعلانية من الصغر بحيث لا تكفي سوى عدد قليل جداً من المؤسسات الإعلامية الموجودة، وأغلب المؤسسات التلفزيونية الفضائية لا تستطيع البقاء دون مدها بدعم مالي من مؤسسات أو هيئات أو أسر سياسية». وبالتالي فإن هذه المؤسسات لا تستطيع أن تستثمر بدون أن تكون لها علاقة وثيقة مع الدولة والهيئات العامة، سواء من حيث رأس المال المدفوع وشكل الملكية، أو الضمانات الأساسية لدورة رأس المال وبصفة خاصة الدخل المتحصل من التوزيع والإعلانات. وهذا الارتباط هو ما أدى إلى «تكبيل استقلالية الخطاب الإعلامي على الشكل الذي يتبدى اليوم بصورة فجة للغاية». نبوءة هيرست - الحكومات ستسعى للسيطرة على الفضائيات الخاصة تنبأ الصحافي البريطاني ديفيد هيرست مبكراً بأن انتشار الفضائيات العربية الخاصة لن يساهم في إحداث التغيير المرتجى بالانعتاق والتحرر من سيطرة الحكومات. ويقول في دراسة له بعنوان: «قطر تصف الجزيرة بالقناة الفضائية العربية التي أحدثت الصدمة» وضعها في العام 2001 في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك»: «ليس هناك جديد بعد إنشاء قنوات فضائية عربية جديدة مثل الجزيرة، في وضع العالم العربي الذي يتسم بالاضطراب. فمع اتساع قاعدة وسائل الإعلام المحلية التي تتسم بقدر هائل من الخواء والتي تسيطر عليها الحكومات أو تؤثر فيها، فإن على كل حكومة أن تقوم الآن بإنشاء منفذ إعلامي عربي يتحدث باسمها، ولكن على الرغم من أن الفضاء مفتوح في العالم العربي، وأن الوسائط الحديثة ليس لديها حدود من الناحية التقنية، فإن ما يعرضه الإعلام العربي لم يتغير سوى بقدر محدود، إذ لا تزال الدعاية القديمة نفسها موجودة في كل مادة إخبارية يتم طرحها». رؤية هيرست بأن الحكومات العربية ستسعى إلى إقامة منافذ فضائية تحت مسميات مختلفة تحققت في السنوات القليلة التي تلت كتابة مقاله، والسبب الرئيس كان الصداع الذي تسببت به الجزيرة لهذه الحكومات من خلال رفع سقف الحرية الذي ظل غائباً طيلة العقود الماضية. بل إن الأمر تعدى ذلك ليصل حد إقرار الإدارة الأميركية إقامة محطة فضائية إخبارية الهدف منها في جزء كبير منه كان التصدي لخطاب قناة «الجزيرة».