تدور الأزمة اللبنانية ومنذ عام مضي في حلقة مفرغة, وكلما مر الوقت تزداد الأمور تعقيدا, وتبعد كثيرا فرص الحل, وتتراجع الآمال في بلوغ تسوية ما للمشكلة الرئيسية وهي انتخاب رئيس للبلاد يملأ الفراغ الرئاسي الذي كان يتوقع حدوثه الكثيرون علي خلفية الأزمة التي سبقت الجلسة الأولي للمجلس النيابي لانتخاب الرئيس, والجدل الذي أثير حول دستورية عدد الحاضرين للانتخاب من أعضاء البرلمان. كانت المعارضة تدرك جيدا أن الأكثرية تمتلك أكثر من نصف أعضاء البرلمان وهو أمر يتيح لها انتخاب الرئيس الذي تريده, فقاطعت الجلسات وطلبت الاتفاق علي اسم الرئيس قبل الدخول لقاعة المجلس, ومنذ هذا التاريخ بل وقبله لم يعد هناك أي توافق علي أي شيء. ففي ظل هذا الوضع باتت تطلعات الشارع اللبناني غير متفائلة بحدوث الحل القريب, ويتحدث البعض عن أمد طويل وتعقيدات أكبر تنتظر تلك التسوية. ويخشي الكثيرون من انفلات الأوضاع الأمنية, وانطلاق شرارة الحرب الأهلية في ظل حالة الاحتقان السياسي بين الفرقاء وتخلي الجميع عن حديث العقل والجنوح إلي المهاترات لإفساد كل مساعي الحل وتعطيل المبادرات. وبدت لبنان حالة خاصة في عالمنا العربي, وأزمة مستعصية الحل. وتأتي الخصوصية من عدة زوايا, فهذا البلد تسكنه طوائف عدة, كما أن لبنان يرتبط بمصالح سياسية مع محاور إقليمية ودولية وهو شأن عربي, وإزاء كل هذا يبدو من الصعب أن تنضج أية تسوية لمشكلته تحت سماء لبنان, وحتما يكون الحل قادما من الخارج. والحل الذي يتوقعه القريبون من الأزمة اللبنانية ربما ينتظر حلول موعد إجراء الانتخابات النيابية بعد عام وبضعة أشهر وإلي حين ذلك سيبقي الوضع علي ما هو عليه إلا إذا حدثت تسويات إقليمية ترتبط بالملف الإيراني وبالعلاقات السورية الأمريكية أو حدوث تقارب سوري سعودي كبير وطي صفحة الخلافات فيما بينهما, والاتفاق علي حل لبناني يبدأ وينتهي علي خلفية مصالحهما المشتركة, أو أن تتنازل الأكثرية لحساب المعارضة وتحقق لها ما تريد وهو الثلث الضامن واختيار رئيس الجمهورية, وبذلك تكون المعارضة قد جمعت بين السلطات الثلاث في لبنان وهي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب والقرار الفاعل في الحكومة.وهذا أمر من الصعب جدا أن تسلم به الأكثرية. هناك تسريبات من داخل قوي الأكثرية تتحدث عن أن فريق14 آذار ربما يقدم تنازلا مهما لصالح المبادرة العربية وفق تفسير المعارضة رغم أنه يدرك أن المعارضة لن تقبل به وستخرج من جعبتها مطالب أخري غير المثالثة في تركيبة الحكومة, وهناك من أبدي النصح لفريق الأكثرية بقبول المثالثة في تركيبة الحكومة علي اعتبار أن رئيس الجمهورية سيكون هو الصوت الوازن لكن الخوف من أن المعارضة ستشترط عدم تولي النائب سعد الحريري رئاسة الحكومة, كما ستتمسك بمشاركة رئيس الجمهورية في تسمية الوزراء من خلال الاعتراض علي البعض أو ترشيح الآخر. وعكس البيان الوزاري الذي صدر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة بوضوح شديد المأساة اللبنانية, فالاجتماع الذي تأخر انعقاده عن موعده أكثر من ست ساعات كاملة دون الكشف عن الأسباب الحقيقية وراء كل هذا التأخير خرج ببيان يمكن وصفه بمن يفسر الماء بالماء فالبند الثاني من المبادرة العربية محل الخلاف الواسع بين المعارضة والموالاة يترك للمفاوضات اللبنانية اللبنانية كما جاء في البيان. الجميع يتفهم أن الجامعة العربية تهدف إلي إيجاد حل للأزمة اللبنانية التي تتجسد في الفراغ الرئاسي, لكن الذي لا يمكن أن يتفهمه أحد هو ما الذي أضافه اجتماع القاهرة الأخير لهذا الحل ؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه لأن المعارضة اللبنانية أطلقت سهام نقدها للامين العام عمرو موسي ووضعت حواجز كثيرة في طريق تحركه ونزعت عنه صفة المحايد, علي الرغم من أنها تعلم جيدا أنها غير دقيقة في ذلك. وتبقي الطموحات العريضة للشارع اللبناني في عدم حدوث حالة الانفلات وإقحام الجيش في المهاترات السياسية والزج به في أتون شارع ملتهب لا يهدأ ويرفع الشعارات السياسية والاجتماعية في اللحظة نفسها, بعدما أيقن الشارع أن الحل بعيد وأن المشكلة أصعب من أن تحسم من خلال المبادرة العربية التي تم الطعن فيها بعد كل الجولات التي قام بها عمرو موسي سعيا وراء الحل وإثبات أن جامعة العرب وأمينها العام في خدمة القضايا العربية, لكن لا يستغرب أحد في لبنان أي أمر, فالاتهامات بين أبناء البلد الواحد تتجاوز كل الحدود, فلا عجب أن يتهم البعض الجامعة أو أمينها. والسيناريو المرجح لكل هذا هو استمرار الفراغ في كل شيء, لكن الفراغ الكبير سيستمر في قصر بعبدا مقر الرئاسة اللبنانية. ********************* الاقتصاد اللبناني يدفع الثمن كتب:هانى عسل علي الرغم من أن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن أزمة الاستحقاق الرئاسي في لبنان لا تكاد تقارن حتي الآن بالخسائر التي تكبدها الاقتصاد اللبناني من جراء الحرب مع إسرائيل عام2006, فإن خطورة أزمة الرئاسة اللبنانية تنجم من كونها تنذر بخسائر اقتصادية تنجم عنها اضطرابات اجتماعية طويلة الأمد, قد تصل إلي درجة الفتنة, بحسب ما ذكر قائد الجيش ميشال سليمان نفسه, بخلاف الحرب التي تحملت آثارها أطياف الشعب اللبناني المختلفة عن طيب خاطر وشاركت جميعها في سداد تبعياتها, بما فيها الأطراف الإقليمية والدولية. فإذا كانت خسائر المواجهة العسكرية بين حزب الله وإسرائيل قد تم تقديرها ب6,3 مليار دولار, فإن خسائر أزمة الاستحقاق الرئاسي الحالية لا يمكن التعبير عنهابالأرقام الآن, ولكنها تتحدث عن نفسها مثلا في صورة تلك المظاهرات العفوية التي نظمها لبنانيون يوم24 يناير الماضي احتجاجا علي ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وصعوبة الأوضاع الاقتصادية بصفة عامة, وأعقبتها مظاهرات واشتباكات أخري غير مفهومة ووصفت بأنها' مفتعلة' في مناطق من بيروت يسيطر عليها حزب الله بدعوي الاحتجاج علي انقطاع الكهرباء! وتظهر أيضا في صورة تحذيرات قائد الجيش ميشال سليمان من خطورة تحول الأمر إلي فتنة داخلية, خاصة بعدمااتضح بأن الفترة المقبلة قد تشهد ما يمكن تسميته' دبلوماسية الفتن والاحتجاجات', علي غرار دبلوماسية المسيرات التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري! ولعلنا نذكر أنه, بعد انتهاء مواجهة حزب الله مع إسرائيل, تعهدت الدول المانحة بتقديم مبلغ يزيد علي المليار دولار لمساعدة لبنان علي إعادة بناء ما دمرته إسرائيل من البنية الأساسية, كما تعهدت لاحقا في يناير2007 بمنح لبنان5,7 مليار دولار لمشروعات التنمية ودعم الموازنة بشرط إحراز تقدم في عملية الإصلاح المالي وبرنامج الخصخصة, ولكن في أزمة الاستحقاق الرئاسي التي صنعها اللبنانيون بأنفسهم, لن يسدد فاتورة الخسائر سوي شعب لبنان أيضا, وهي فاتورة لا يعلم أحد قيمتها ولا موعد استحقاقها حتي الآن بحكم امتداد الأزمة وعدم وجود بوادر حل قريب في الأفق حتي الآن. ويكفي القول إنه في الأشهر الأخيرة ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بنسبة7,3%, وخاصة في الفترة بين يناير وأكتوبر2007, وبلغت نسبة الارتفاع في أسعار المواد الغذائية8%, فضلا عن وجود28% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر, وزيادة نسبة البطالة إلي نسبة20%, وتوقف معدل النمو الاقتصادي عند3,0% في عام2007. والمشكلة تكمن أيضا في أن الاقتصاد اللبناني بطبيعته يجب أن يتوافر له أساس من الاستقرار الداخلي, سياسيا وأمنيا واجتماعيا, فهو اقتصاد قائم علي قطاع الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية والتعاملات البنكية, وهي كلها أنشطة تقوم بصفة أساسية علي الاستقرار السياسي.