الأهرام 18/05/2008 لن اتطرق في هذا الحديث عن تراثنا إلي التداخل النظري, الذي يكاد يصل إلي حد التشابك في بعض الحالات, بين مفهوم التراث من جهة وبين مفهومي الحضارة والثقافة من جهة أخري.. ولكني سأتحدث عن التراث بوصفه كل ماتوارثه المجتمع من منجزات سواء أكانت مادية أم كانت غير مادية تشتمل علي القيم والتقاليد والمعتقدات وأسلوب الحياة والفكر, ممايجعل هذا التراث ممثلا لشخصية المجتمع الذي ينتمي إليه, وفي هذا الصدد فقد تعرض تراث مصر في مراحل مختلفة من تاريخنا لقدر غير قليل من التفريط فيه من جانبنا ومن الاعتداء عليه بأيدينا أو بأيدي الآخرين, مماكان يشكل في جملته استباحة لقيمة هذا التراث. وقد اتخذت هذه الاستباحة صورا متعددة, من بينها ماكان يحدث لآثارنا حتي فترة غير بعيدة من تهاون في التعامل بشأنها مثل تنازلنا عن قسم من اللقي الأثرية كشرط من شروط الاتفاقيات التي كانت تعقدها معنا الهيئات الأجنبية التي كانت تقوم بالحفائر في مصر, وكذلك مثل إهداء حكوماتنا بعض هذه الآثار إلي بلد أو آخر كسبا لوده أو اعترافا بجميله في مناسبة أو أخري, وهو أمر ظل قائما من عهد محمد علي حتي عهد عبدالناصر حين أهدت الحكومة المصرية معبدا كاملا من معابد النوبة هو معبد دندور إلي الولاياتالمتحدة ليستقر في متحف المترو بوليتان في نيويورك, وكان هذا الإهداء شكرا لهذه الدولة علي إسهامها في إنقاذ معبدي أبو سمبل اللذين يرجعان إلي عهد رمسيس الثاني, ومن بين هذه الصور كذلك السرقات المباشرة لبعض الاثار وهي سرقات كانت تتم علي يد مصريين أو أجانب أثناء الحفائر التي كانوا يقومون بها من غير تصريح رسمي بغية العثور علي قطع أثرية بغرض البيع أو التهريب إلي الخارج للاقتناء أو لأي هدف آخر. وممايدل علي استفحال الأمر في هذا المجال أنه إذا كان بعض هذه السرقات يتم بالطرق الهادئة فإن البعض الآخر كان يصل الأمر من جرائه إلي العنف القاتل, كما حدث في منطقة أثرية بالعياط في غضون الأسبوع الأول من ابريل الفائت حين راح ضحية هذا العنف ثلاثة خفراء استقرت في أجسادهم خمسون طلقة رصاص. وحقيقة أن بعض الآثار المسروقة قد وجد طريقه إلي متاحف أجنبية مرموقة, حيث تلقي هذه الآثار العناية الفائقة التي تليق بها بوصفها رموزا لحضارة قامت بدورها في تاريخ البشرية. وحقيقة كذلك أن مثل هذه الرعاية الفائقة التي تحظي بها آثارنا في الخارج قد يثير لدي البعض منا, في إحدي لحظات الانبهار أو الضعف, تساؤلا مراوغا أو مقارنة محيرة بين قيمة استردادها إلي حضن مصر أو الإبقاء عليها, حيث هي في ظل هذه الرعاية غير العادية التي تجعل من هذه الآثار سفراء مقيمين لمصر في الخارج.. ولكن برغم أن مثل هذه الاعتبارات قد تستحق ان يتوقف لديها المهتم بتسويق شخصية مصر الحضارية, إلا أن استباحة تراثنا من حيث كونها استباحة تظل تلقي بظلالها الداكنة التي تثير الاعتراض أكثر مماتدعو إلي الترحيب, حتي لو اقتصر سبب ذلك علي أن الاطار الطبيعي لتراثنا هو فوق أرضنا. علي أن هناك قضية تستوجب منا أن نتوقف لديها بعض الشيء في هذا السياق بغض النظر عن اعتراضنا المبدئي علي استباحة التراث. إن هذه الاستباحة لتراثنا مهما كان الشكل الذي تتخذه لا تنكر الهوية المصرية لهذا التراث, بل تبقي علي انتمائه المصري في كل الأحوال بحيث يظل جزءا من تاريخ مصر وحضارتها: يقر بذلك الجميع بمن فيهم من انتهي إلي حوزته أو الي حوزتهم الشاهد التراثي قيد الحديث. ولكن نوعا آخر من محاولة الاستيلاء علي تراثنا, ربما وجد بشكل متناثر في عصور سابقة إلا أن الشواهد بدأت تشير الي حدوثه بشكل متواتر في العقود الأخيرة. هذا النوع من الاستيلاء قد لا يكون استيلاء ماديا أو ملموسا علي هذا الشاهد أو ذاك من التراث, ولكنه ينقض علي قطع التراث المطلوبة ليسلبها هويتها المصرية ذاتها. ومن قبيل ذلك ثلاث محاولات اسرائيلية: كانت الأولي بينها اشارة من مناحم بيجن رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق, الذي ذكر في مناسبة زيارته لمصر أثناء مفاوضات السلام أن أجداده( اليهود القدامي) قد شاركوا في بناء الأهرام! وكانت المحاولة الثانية هي اتخاذ الأهرام شعارا لاحدي قنوات التليفزيون الاسرائيلي.. أما المحاولة الثالثة فهي ادعاء اسرائيل أن الكف( بأصابعها الخمسة) التي يعتقد أنها تمنع الحسد تشكل جزءا من تراثها الشعبي رغم إثبات العلماء المصريين المتخصصين( سواء في علم المصريات أو في التراث العبري القديم) أن هذا التقليد مصري فرعوني( ولا يزال قائما بيننا حتي اللحظة التي نعيشها) ولا وجود له في التقاليد العبرية. وقد عمدت اسرائيل في نشر هذه المغالطة إلي صنع نماذج للكف بصفتها أحد التقاليد المذكورة وعرضتها في قاعة الهدايا التذكارية داخل مبني الأممالمتحدة في نيويورك وهي قاعة تنظم ادارة المبني جولات سياحية إليها لرواد المكان وزواره من عديد من البلاد. وتبقي كلمة في نهاية الحديث: إن قيمة التراث لاتقتصر علي ضخامته أو فائدته أو علميته. ولكنها تقاس كذلك بمقاييس أخري يأتي في مقدمتها أن الشاهد التراثي قيد الاعتقاد يشكل محور التفاف ومن ثم عنصر تماسك للمجتمع الذي يمثله. ومن هنا فإن قدمه في التاريخ يشكل مقوم استمرارية وأصالة للمجتمع المذكور. وتكمن خطورة الادعاء في هذا المقام في أن رجل الشارع الذي يستهدفه أصحاب المغالطة بالدرجة الأولي لا يتوقف كثيرا ليتبين مدي صحة المعلومة التي يزج بها في طريقه وإنما يتقبلها كما هي, أو بالأحري كما يراد له أن يتقبلها.