كلما ارتفعت أسهم أوباما وفرصه في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ثم الفوز بمنصب الرئاسة، سوف تزداد الضغوط التي تمارس عليه في إطار المزاد المفتوح لتأييد إسرائيل في انتخابات الرئاسة الأميركية. وكانت المحطة الأخيرة في هذا المزاد هو ما قاله المرشح الجمهوري جون ماكين في أكثر من مناسبة من أن حماس ستكون سعيدة بفوز أوباما. وبالطبع فإن ماكين يقول ذلك للدلالة على أن تأييد أوباما لإسرائيل موضع شك، الأمر الذي يضع أوباما في موقف الدفاع الذي لا يكون قطعا إلا بدخول مزاد تأييد إسرائيل. الطريف في الأمر هذه المرة أنه بغض النظر عن التصريحات التي جاءت على لسان الدكتور أحمد يوسف مستشار السيد إسماعيل هنية والتي فهم منها أن حماس لها موقف إيجابي من أوباما، إلا أن أوباما نفسه الذي انتقد سياسة بوش التي ترفض لقاء الأطراف الدولية التي تعتبرها عدوا لها قد استثنى حماس من اللقاءات التي وعد بأن يعقدها إذا ما تولي الرئاسة ودعا علنا إلى عزلها باعتبارها منظمة «تمارس الإرهاب» على حد قوله. والحقيقة أن تلك ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتم فيها دفع أوباما لتقديم صكوك غفران جديدة بشأن إسرائيل. أما نقطة البداية فقد قام بها أوباما بنفسه تحسبا لما سوف يحدث. فهو كان في التسعينات قريبا من الأميركيين العرب ويبدي تعاطفا مع وجهات نظرهم إزاء القضايا العربية. وقتها كان يخدم في المجلس المحلي لولاية إلينوي وكان في حاجة لأصوات الأميركيين العرب لأنهم قوة تصويتية مهمة هناك. ولكن ما إن بدت عليه أعراض الرغبة في الترشيح لمجلس الشيوخ ثم الرئاسة حتى تبدلت مواقفه وصار يؤمن إيمانا مطلقا «بأمن إسرائيل» ولا ينبت ببنت شفة قد يشتم منها رائحة انتقاد لها. ولكن حين رشح نفسه للرئاسة، طلب منه أنصار إسرائيل علنا أن يحدد رسميا موقفه من لويس فراخان زعيم أمة الإسلام المتهم بالعداء للسامية وهو ما فعله أوباما فعلا وأدان الرجل ونأى بنفسه عنه، رغم ما ينطوي عليه الطلب ذاته من عنصرية مستترة. فأوباما ليس مسؤولا عن كل تصريح يدلي به أي أسود في أميركا، إلا إذا كان على المرشحين الآخرين هيلاري كلينتون وجون ماكين إدانة كل ما يأتي على لسان كل أبيض. ثم جاءت المرحلة الثانية والأكثر خطورة والتي مورست فيها الضغوط الشديدة على أوباما حتى يدين علنا القس جرمايا رايت راعى كنيسته ومستشاره الروحي، وهو ما فعله أوباما أيضا. ورغم الدلالات الخطيرة لتخلي أوباما عن جرمايا رايت ، إلا أن الإعلام العربي تجاهل الموضوع بالكامل رغم أنه يعنينا كثيرا في واقع الأمر. فخطورة ما حدث هي أن أوباما حين تخلي عن جرمايا رايت فإنه أعلن ضمنا تخليه عن الرغبة في إحداث أي توازن في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة العربية. فجرمايا رايت يعبر عن تيار مهم داخل الجماعة السوداء له رؤية نقدية للسياسة الخارجية الأميركية عموما. وهي رؤية تنبع في الواقع من خبرة السود في أميركا ذاتها. فسود أميركا الذين اتهم زعماؤهم- بمن فيهم مارتن لوثر كنج- بالإرهاب يوما ما لا يقبلون بسهولة تلك الأوصاف التي تطلقها حكومة بلادهم على حركات التحرر الوطني حول العالم. فهم لم ينسوا أبدا أن نيلسون مانديلا كان «إرهابيا» في الخطاب الرسمي للحكومة الأميركية لسنوات طويلة. ومن هنا، ينظر ذلك التيار للقضايا العربية نظرة مختلفة. ومن بين ما يرفضه هذا التيار في سياسة بلاده الخارجية هو التأييد الأعمى لسياسات إسرائيل واعتبار الإسلام هو المسؤول عن مشكلات الشرق الأوسط. وهي الأفكار التي عبر عنها جرمايا رايت في أكثر من مناسبة وكانت جزءا لا يتجزأ مما أثار الجدل حوله وطولب أوباما بإدانته. ومن هنا كان من المهم لأنصار إسرائيل- ضمن قوى أخرى طبعا- أن يعلن أوباما على الملأ إدانته لجرمايا رايت. بعبارة أخرى، فإن أوباما صار يقدم التنازل تلو الآخر في إطار المزاد المفتوح لصالح إسرائيل. والضغوط التي تمارس على أوباما أكثر من تلك التي تمارس على كل من هيلاري وماكين لأن عمره السياسي أقل منهما ومن ثم لم يقدم بعد في تاريخه السياسي ما يدل بما يكفي على ولائه لإسرائيل. هذا فضلا أيضا عن بعض العنصرية المستترة التي تنطوي عليها معاملة السود ككتلة واحدة لا يوجد بها تباينات ولا اختلافات في الرأي وعليه فإن ما يصدر عن أسود إنما يعبر بالضرورة عن رأي كل السود ومسؤول عنه كل السود يعاقبون عليه بالضرورة عقابا جماعيا. غير أن هذا لا يعفي المرشحين الآخرين من خوض المزاد بين الحين والآخر. فالمزاد مفتاح مهم من مفاتيح التمويل السخي للحملات الانتخابية. وهو قد يحقق تغطية إعلامية إيجابية إذا ما استخدم المرشح عبارات صارخة تستحق التغطية. وفي هذا السياق، زايدت هيلاري كلينتون على الجميع حين تعهدت «بمحو إيران» إذا ما هددت إسرائيل. أما جون ماكين فقد اختار أن يفعل ذلك عبر السعي للحصول على تأييد أحد رموز المسيحية الصهيونية. فقد سعى ماكين سعيا حتى حصل على تأييد جون هاجي الذي يطالب بشن حرب «مقدسة» على إيران، ويقول علنا أنها ستكون لصالح إسرائيل، ويتهم القرآن بأنه يدعو إلى قتل المسيحيين واليهود. المؤسف في كل ذلك هو أن تلك المزايدة التي تبرر بأنها للدفاع عن إسرائيل لأنها «واحة الديمقراطية» التي تعاني «وسط بحر من العداء»، إنما تورط أصحابها في الاعتداء على العرب والمسلمين دون أن يشكل ذلك لأحد منهم مشكلة من أي نوع. «فمحو» 70 مليون إيراني كما تقول هيلاري، ليس مشكلة وحرب أخرى مدمرة في الشرق الأوسط يدعو لها القس هاجي ليست أيضا مشكلة. واتهام دين الملايين من المسلمين حول العالم بالعنف دون دليل ليس مشكلة. وكل هذا يحدث في إطار «العملية الديمقراطية» الأميركية. ولأنه لا يوجد ثمن يدفعه أي مرشح بسبب عدوانه على العرب والمسلمين فإن المزاد سيظل مفتوحا ولن يغلق أبوابه إلا بعد أن يعلن رسميا اسم الفائز بمنصب الرئاسة الأميركية.