أعادت «حرب الرئاسة» تأكيد بعض المقولات اللبنانية، وأسقطت كثيراً من الشعارات، لكن الثابت السياسي، ظلّ ممثّلاً في حقيقة هشاشة البنية الداخلية، وفي ركاكة تراكيبها. لم يعد ممكناً للكثيرين الحديث بطلاقة، عن حروب الآخرين على أرضنا، الأحرى الانتقال إلى «عبارة» أننا المسؤولون دائماً عن تغلغل ورعاية الآخرين فوق ساحاتنا الداخلية. ولم يعد مقنعاً القول، أن اللبنانيين، إذا ما تركوا لشأنهم، قادرون على حلّ خلافاتهم الداخلية سريعاً!! لقد ظهر جلياً، في معرض «الرئاسة» وهوامشها، أن بين اللبنانيين، سياسياً، «ما صنع الحداد». يعيد مشهد الأزمة الداخلية المستفحلة حالياً، النقاش في الأساسيات. ولا بأس في هذا المجال، من استعادة مسيرة اللبنانيين، منذ ولادة استقلالهم، على شكل خلاصات مكثفة. أخفق اللبنانيون في استكمال بناء «الاستقلال الرسمي» الذي حصلوا عليه، في لحظة وفاق داخلي، استجاب لها الدولي والإقليمي، وإذا شئنا قلب المعادلة، قلنا استقل اللبنانيون في لحظة تقاطع مصالح عربية ودولية وقعت على أرض لبنانية ملائمة. تظل العبرة في النتائج، التي جاءت على شكل إنجاز وطني داخلي... ذات يوم توافقي عابر!! في السياق ذاته، فشل اللبنانيون في جلاء المسلمات الداخلية، التي تشكل عصب رابطتهم الوطنية، فأمعنوا في التمويه، وفي التضليل وفي إثارة الغبار من حولها... كان الوضوح الممكن حيال هذه «البديهيات»، هو وضوح الخلاف، ومتى؟ في زمن الأزمات، حيث يصير الكلام المباح، عنصراً مفيداً في الإضافة إلى نارها المستعرة!! ليس من باب التهمة الاستخلاص، أن هكذا مسلك سياسي ينطوي على رغبة أكيدة من قبل الفرقاء، تقوم على إدامة «سائد الطوائفي»، والحفاظ على النظام العام الذي يحرسه. في هذا الباب نلاحظ، أن «التقية» تخدم ما يسمى «بالخداع المشترك» بين الفئات اللبنانية، وتتيح التمسك «بالمقال الذاتي» الخاص بكل فئة... هكذا يعتمل تحت سطح البحر الوطني الهادئ، كل الهيجان الفئوي، الذي «يفاجئ» الجميع عند كل محطة سياسية حاسمة. على منوال الأزمات السابقة، تعمل إبرة الخارج اليوم، في نسيج الرقعة الاجتماعية اللبنانية، المقيمة على خلاف مستحكم حول أولوياتها. يُعطى الخلاف مسمى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنه يكثف في مضمونه كل ما تعتقده الأطياف اللبنانية، جوهرياً. يساوي الرئيس الجديد (عاجلاً أو آجلاً)، معادلة موقع لبنان الشعبي والرسمي، في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، الذي له اسم لبناني داخلي، هو «حزب الله وسلاحه» ومساهمة لبنان وشكلها وإدارتها وإمرتها وما يلحق بها من توازن، أو خلل، في شبكة «الأمان الطوائفية» الداخلية. كذلك يعادل الرئيس الآتي (متى أتى)، اتصال لبنان بالعالم الحديث، أي بالغرب، بعيداً من نظرية المؤامرة والقاعدة العدوانية المتقدمة، وآليات النهب والرغبة الاستعمارية... أي بمعزل عن كل «جعبة حركات التحرر» التي آلت إلى السقوط على كل الأصعدة، وعجز أربابها وما زالوا، عن ابتكار معادلة عقلانية أخرى لصلتهم بالعالم، على قاعدة ما أمكن من المصالح المتبادلة، المحسوبة بدقة، والمدارة بواقعية سياسية عالية. وإلى ما سبق، فإن الرئيس المنتظر، يشير إلى نظرة اللبنانيين، إلى إدارة حياتهم السياسية، وفق قواعد سياسية واجتماعية وقانونية ودستورية، تتيح الخلاف وتنظمه وتحدد مساربه، وتمنع احتقانه... ما يؤمن انسياباً سلساً لعملية إدارة «الاجتماع اللبناني» بحيث لا تطرح مسألة الكيان على بساط البحث، كلما وقف اللبنانيون على باب واحد من استحقاقاتهم السياسية. ما تقدم على سبيل الأمثلة، يدل على ما يضمره اللبنانيون، عندما يلامسون عتبة الإفصاح، ويدل أيضاً على عمق الأزمة، لأن الإجابة على الأمثلة التي وردت تقيم على افتراق لدى «الأهل المتنازعين» وتقع لديهم موضع اجتهادات متباينة. ويعزز الواقع الآنف الذكر، اندفاع الخارج الدولي والإقليمي إلى الداخل، ومع هذه الاندفاعة، تصير «مناحة» اللبنانيين حول استقلاليتهم موضع استهجان!! وقائعياً، لا بديل من القول، بأسف، أن الانكشاف اللبناني أمام الخارج صار فادحاً، وأن «لا سابق له» على ما يقول بعض مواكبي الحقبة الاستقلالية... عليه، لنسأل: ما مصدر هذه القوة الخارجية؟ الجواب، إنه الداخل أولاً، الذي يقدم متكآت لهذا الخارج ونقاط ارتكاز، ويسهل له إدارة مصالحه، وخوض معاركه السياسية، فوق أرض اللبنانيين... وأجسادهم، والتلاعب بكيانهم وبمصائرهم وآمالهم المستقبلية. لا يثير ذلك الاستهجان، فليس في السياسة محرمات، على الضد مما تشيعه وسائل «الديموقراطية الغربية» وعلى النقيض بما تبثه «قنوات الأخوة العربية»!! ما زال الراهن يقدم صورة عن الأداء الرديء «للاعبين السياسيين» اللبنانيين، فأولئك يستشعرون، ويعلمون، بضراوة الصراع الدائر حولهم، فيركبون موجته، لعلهم بذلك يصلون إلى بعض من رغباتهم «السلطوية» الضيقة. هكذا تستدرج الوصاية، لأن لا خدمة بالمجان، وهكذا يصنع الالتحاق، لأن القوي يفرض شروطه، وهكذا يعاد تفصيل الوطن الصغير، لبنان، وتصغيره، لأن أموره تؤخذ بالمفرق، وعلى مقاس، الطامحين إلى قيادة «سيادته واستقلاله وعروبته و...». العالم ينشغل بنا، هكذا يظن الساسة، الأرجح أننا نشتغل عند هذا العالم!! أو بعبارة أقسى، إنه يستخدمنا!!.. وعلى ذلك، خيّل للبعض، أنه سيكون لنا رئيس على قياسنا، في حين أن الوقائع تقول، أنّ «العالم» يخيط رئيساً على قياسه... هنا لا بدّ من التنبيه، إلى أن الرئيس، المصنوع عالمياً، قد يكون فضفاضاً نتعثر لدى التنقل به، أو ضيقاً يشد الخناق على أجسادنا... هذا من دون أن يعير العالم انتباهاً، لعثراتنا، أو لصيحاتنا، لأنه ما من سياسي لبناني، يستطيع القول: «الأمر لي» في نهاية المطاف!!