غريبة هذه الحياة.. التقينا لأول مرة محمود عزب وأنا في باريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.. كنت في زيارة طويلة إلى فرنسا ويومها رأيت شابا مصريا نحيفا يعد رسالته للدكتوراه في جامعة السربون أشهر جامعات فرنسا.. يومها أسمعني كثيرا من شعره وطاف بي في معالم باريس. كان يعرف باريس بشوارعها وحواريها كما يعرف القاهرة.. رأيت فيه موسوعة علمية وفكرية متعددة الآفاق والجوانب يحفظ من الشعر العربي بكل مراحله آلاف الأبيات ويقرأ الشعر الفرنسي كأنه ولد في حواري باريس.. وعاشق الثقافة العربية بكل تراثها في الأزهر الشريف الذي درس فيه واصطحبني يوما في زيارة للسربون وطفت معه في اروقتها ساعات ثم ذهبنا معا والتقينا بالطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي بعد أن أعلن إسلامه، وكان طبيبا للملك فيصل رحمة الله عليه ويومها اجريت حوارا طويلا مع بوكاي وقام محمود عزب بترجمته كاملا لينشر في الأهرام.. وودعت يومها محمود عزب وهو يذهب معي بشهامة أهل الريف إلى المطار.. كان رقيقا مثقفا مجاملا يحمل عراقة وطنه وتفتح البلاد التي تنقل بينها باحثا عن الفكر مؤمنا بالثقافة داعيا إلى إنسان أكثر وعيا واستنارة عاد محمود عزب إلى مصر وأصبح مستشارا للحوار مع فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر ثم مؤسسا لمركز الحوار بين الأديان ومقررا لبيت العائلة المصرية وقام بدور وطني كبير في مواجهة دعوات الفتن بين أبناء الوطن الواحد.. الغريب في الأمر أنني كنت أحيانا أشاهده في التليفزيون ولم نلتق بعد الأيام التي قضيناها معا في باريس وهو لا يزال طالبا يدرس فيها.. كنت أراه من بعيد وأتذكر نبل أخلاقه وشهامته وعشقه للثقافة.. كان طرازا فريدا في تنوع وثراء ثقافته.. الأغرب من هذا كله انني كنت أقف مع بعض الأصدقاء بعد انتهاء حفل تنصيب الرئيس السيسي في قصر القبة ورأيت أمامي محمود عزب وتعانقنا بينما تلال الشعر الأبيض تمتد بسنوات العمر بيننا.. تبادلنا التليفونات واتفقنا ان نلتقي لنعيد ذكريات أيام مضت.. وقرأت في الصحف خبر رحيله وتعجبت من اقدارنا كما فرقت الأيام بيننا في البداية وفرقتنا بلا موعد في النهاية.. رحمه الله واسكنه فسيح جناته. نقلا عن جريدة الأهرام