تمر غدا الذكرى الثانية لرحيل الأب الروحي للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان الدكتور جون قرنق دي مبيور، وسط أجواء يلفها الغموض والضبابية إزاء مستقبل شطري السودان الشمال والجنوب، وكان الراحل من الوحدويين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف ناضل أولا داخل الحركة الشعبية التي تأسست أصلا على عامودها الفقري حركة أخرى انفصالية هي مجموعة الأنانيا “1 و2”، اللتان استأنفتا نشاطهما السياسي عقب تخلي الرئيس الأسبق جعفر نميري عن اتفاق أديس أبابا الذي وقعه مع الجنوبيين في 1972 وأنهى بموجبه الحرب الأهلية التي اندلعت عقب استقلال السودان في ديسمبر/كانون الأول 1955 من داخل البرلمان، لكن التمرد الصغير الذي قاده جون قرنق في عام 1983 استطاع أن يجذب حوله معظم قيادات وكوادر حركة أنانيا والأحزاب الجنوبية الأخرى التي التفت حول حزبه الحركة الشعبية لتحرير السودان، وناضل بعدها في إضفاء روح الوحدة على التنظيم، واستطاعت الأفكار التي أعلن عنها في جذب سودانيين عديدين من غير الجنوبيين وهم أبناء جبال النوبة وأبناء النيل الأزرق، ثم تبعهم شماليون أي من ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية في مقدمتهم ياسر عرمان. ولكن يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد رحل مؤسس الحركة الشعبية في حادث طائرة مأساوي قبل عامين، وكشف الرحيل المفاجئ عن تنظيم أصبحت تتهدده الرياح، فقد كان قرنق الممسك الوحيد بكل خيوط اللعبة داخل الحركة، ونجد أولا أن سودانيين جنوبيين عديدين ثاروا وبصورة مفاجئة في مدن سودانية، في مقدمتها الخرطوم التي أحرقوها وقتلوا فيها الأبرياء ما خلف جروحاً لم يشف منها عديدون بعد، وكان ذلك كله بسبب اعتقادهم بأن قضيتهم التي ناضل من أجل تحقيقها الراحل ماتت بموته، وتتمثل في وعود براقة كانت تطلقها الحركة حينها بتنمية تزيل الفقر والعوز عن الملايين من المهمشين، إضافة إلى حريات واسعة في مقدمتها الحريات السياسية وحريات المعتقدات التي فقدها النازحون بسبب نقض الشمال للمواثيق والعهود، وسيطرة “حكومات ظلامية” على الحكم في الخرطوم، ودفع ذلك بآلاف النازحين للخروج في المدن المختلفة غضبا وألما لرحيل قرنق. بيد أن الخاسر الأكبر لرحيل قرنق هو كل السودان، لأن الأمور بدأت تعود إلى سابق عهدها، فقد سيطر “المؤتمر الوطني” على كل القرار السياسي وعلى الحكم وعلى السلطة المدنية والعسكرية، مستغلا بذلك فقدان الحركة الشعبية للبوصلة، فقد بدأت تظهر الصراعات داخل الحركة حول الاكتفاء بالجنوب وحده وبالمكاسب التي حققوها، بدلا عن إنزال أفكار قرنق الداعية للوحدة لأرض الواقع. قاد هذا كله معظم المراقبين إلى الشك في إمكانية وحدة السودان عقب ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير الذي كفلته لهم اتفاقية نيفاشا، إذ أن “المؤتمر الوطني” وهو الشريك الأساسي في الاتفاقية، بدأ يتراجع صراحة عن تنفيذها حتى في إنزال أمور ثانوية فيها، ونجد أن التنمية والمساعدات بدأت تقدم فقط للمناطق القديمة نفسها وهي أواسط شمال السودان، ونجد أن احد عرابي النظام، وهو وزير المالية الأسبق عبد الرحيم حمدي نادى صراحة بأن تركز الحكومة “المؤتمر الوطني” نشاطها التنموي في مثلث دنقلا، سنار وكردفان، وألا تخرج التنمية عن هذه المناطق ومؤشر هذه الدعوة إلى عدم جدية الحكومة في جعل الوحدة جاذبة، كما نادت بذلك الاتفاقية. وسيدفع هذا حتما بالجنوبيين إلى التصويت لصالح انفصال إقليمهم والمراقبون على قناعة أنه إذا انفصل الجنوبيون فهناك أقاليم أخرى ستلحق بهم، وأولها إقليم دارفور الذي يمكن أن ينفصل عن السودان إذا فشلت الحكومة في حل قضيته إلى جانب ذلك ظهرت توترات في كردفان، بسبب مطالب لإحدى القبائل التي كانت تساند الحكومة في حربها ضد الجنوبيين، وهي مطالب مالية لا تستطيع الحكومة الإيفاء بها. ونجد صراحة أن قبيلة المسيرية من المتعلمين باتوا يتهمون الحكومة صراحة بعدم الاكتراث بأبناء القبيلة التي كانت تمثل خط الدفاع الأول في مناطق البترول.