في داخل كل منا5 يونيو بشكل ما, وهذا ما أود الحديث عنه, لكنني لا أود تكرار الأحاديث المعادة التي تجتاح صحفنا وإعلامنا في هذه المناسبة, بل آمل أن أتلمس ما يرشح من طرائق تعاملنا مع فاجعة كهزيمة يونيو, لعلي أمسك بتوصيف لأسلوب من أساليب تفاعلنا كعرب مع الفواجع عامة, وما أكثر الفواجع العربية التي تكاد لا تمر واحدة منها, حتي تهل فاجعة جديدة, وليس الهدف بالتأكيد تكرار جلد الذات أو تكرار توجيه قرارات الاتهام بل أتوسم أن أفهم الآلية التي نتعامل بها مع الفواجع, وأبحث عن جذورها التاريخية إن وجدت لعلي أخرج باستنتاج مفيد, خاصة أنني قد وقعت علي كتاب صغير, لمفكر عربي غير مشهور خارج وطنه, يعالج هذه المقاربة تحديدا العرب وتجربة المأساة, وبالرغم من أن تاريخ تأليف هذا الكتاب الصغير الكبير يعود إلي العام1963, فإنه قابل للمناقشة علي أرضية كل المآسي العربية ومنها مأساة يونيو67 فلا شك أن الهزيمة مأساة, لكنها مأساة في سلسلة من المآسي العربية التي لم تنقطع, ومن ثم فإن فائدة المناقشة ليست في الاقتصار علي هذه المأساة أو غيرها, وإنما في شمولها السياق العام, للخروج بشيء عام مفيد, ومضئ للمناسبة التي لاتزال تهيمن عليها الغيوم. المأساة ينبوع لكل تجربة واعية من تجارب الحياة, فحيث يتحرك الفاجع, يكون الموقف الجدي العميق في وجود الإنسان, الموقف الذي يجابه الحقيقة في جرأة ويعيش القيم في أقوي صورها الإنسانية وأكثرها شمولا, لأن فجيعة الانهيار تنسكب في أعماق النفس, حزنا صامتا, متحررا من الحنق الزائف والغرور الفارغ, إنه السكون الذي يتأمل المصير الإنساني كله من خلال المأساة أو الفاجع الذي يبدو للآخرين حادثة عابرة. فماذا فعلنا مثلا حيال مأساة هزيمة يونيو التي هي نموذج لمآسينا التاريخية التي سبقتها والتي تلتها؟ وهل من جذور للطريقة التي تفاعلنا بها مع هذه أو تلك من المآسي؟ وهل كانت طرائق تفاعلنا مما يمكن أن نضعه في خانة الرفض الإيجابي, أو الاستجابة التعويضية الجادة باتجاه الحضارة؟ إنها أسئلة متشابكة تدعونا ليس فقط للرجوع أربعة عقود إلي الوراء, بل إلي ما هو أبعد من ذلك في تاريخنا العربي. بعد تطواف بصير بنماذج من الاستجابات الشعرية التي تعكس حس المأساة عن العرب في الجاهلية, يصل صدقي إسماعيل إلي استنتاج تبلوره أبيات الشاعر الجاهلي المهلهل بن ربيعة الذي شغلته آلام الحرب ثلاثين عاما, يقول: لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صالي فمن هذه اللوعة الشعرية يستنتج أن تجارب المأساة في الجاهلية تحيل بوضوح إلي وعي مفاجئ بقداسة الماضي الذي يكمن في أعماق النفس, ويلزم الفرد بأن يكون ضحية, إذن, كانت الاستجابة لفعل المأساة تنزع بالفرد إلي العودة باتجاه الماضي. ولم يتوقف جذر اللجوء إلي الماضي عن الامتداد من تفجع الشعر الجاهلي إلي ما تلاه, بل امتد إلي نظرة المعاصرين أيضا, وهو أمر لا يحتاج إلي دليل لإثباته فيما يجري فينا وحولنا من نكوص إلي الماضي يعبر عنه كثيرون, فهم يتلفتون إلي الماضي في شئ كثير من الزهو والحنين, كما لو أنه الحقبة الوحيدة التي شهدت الفردوس العربي المفقود, ثم غاصت إلي الأبد في ذاكرة التاريخ, وهذا التوجه الماضوي تفصح ترجمته عن موقف لا يري في الحاضر إلا فاجعة مثقلة بالمخازي, ومن ثم يصير حس الانهيار خاليا من أي تصور تاريخي واضح للمبررات التي حتمت السقوط أو الانهيار أو المأساة أو الهزيمة, وهذا بدوره يحيل إلي الإحساس بحتمية تعفي من المسئولية, وهذا التنصل من المسئولية يوقظ في الوجدان وعيا عميقا بأن رداء الفجيعة يمكن أن يبسط ظله القاتم علي الحاضروالمستقبل, وأخطر ما في هذا الوعي الشقي أنه ينطوي علي إدانة قاسية للعنصر الإنساني في الحياة العربية. وتلوح مشكلة الجدارة الانسانية موضع تساؤل في كل مناسبة تعقب الهزيمة أو المأساة أو الفاجعة وتستمر بعدها: هل نحن جديرون بأن نصنع مصيرنا, بأن نشاطر الآخرين حضارة العصر الذي نعيش فيه؟ هل لدينا مؤهلات لملء الفجوة بيننا وبين الآخرين؟ هل نستطيع تجاوز الهزائم والمآسي والفواجع؟ كل هذه الأسئلة برزت بعد هزيمة يونيو, وهي لا تزال تطرح في مواجهة التخلف العربي علي اللحاق بالسباق العالمي الذي دخلت مضماره أمم كانت أكثر منا تخلفا حتي عهود قريبة, وهي أسئلة تنطوي في ذاتها علي إجابات مضمرة ذات طابع سلبي غالبا, وهذه أحد وجوه الانفعال العربي بالمأساة, أو الفاجعة أو الهزيمة, وهو وجه يتجاور مع وجوه مماثلة يمكن المرور عليها سريعا, لأن تأمل ملامح كل منها يتطلب حديثا وربما أحاديث مستقلة. الهروب إلي الماضي, والاستسلام لوهم حتمية المأساة, والتعامل مع الحاضر كمحصلة انتظار مريب وبائس, كل هذه مجرد مظاهر أخري للتنصل من المسئولية وسلبية التفاعل تبدو متخفية تماما, ومنها هذه الفحولة العربية في شعر ونثر المراثي, والاستغراق في الندم والحزن المديد, ولطم الوجوه والصدور!, وذم الزمان الذي يبدو كما لو كان شيئا مستقرا في بنية العقلية العربية منذ بدايات عصور الانحطاط والتخفي في قوقعة الرفض الزاعق, وتقمص دور الضحية, ورفع ألوية الارتياب في كل شيء. كل هذه المظاهر شاهدنا تنويعات لها عقب هزيمة يونيو, فكان هناك اتجاه جارف للرجوع إلي الماضي, وكان هناك تعامل مع الفاجعة جعل من الحاضر مجرد محطة انتظار مريب ومحبط, كما كان هناك الوجه الآخر لهذا الهروب متمثلا في مظاهر تبدو أبعد ما تكون عن الهروب من مسئولية النهوض الذي تحتمه الهزيمة, وتجلي ذلك في الشعر وميل المثقفين العرب لعملية جلد الذات التي لا تحتم أي إعادة للتفكير ولا أي إعادة للبناء, ولم تكن قصائد ومقالات الرفض الزاعق خروجا عن هذه القاعدة, قاعدة الهروب من توابع الفاجعة وإن بفحولة ظاهرية, ولعلنا لم ننس تلك القصائد التي راحت تدور مثل رياح القدر لتشمل كل ركن عربي بتهكمها ولوعتها وقسوتها علي الذات الفردية والذات الجمعية العربية. فهل نري نموذجا لجلد الذات, وإعفاء الذات من مهامها الواجبة, أوضح من ذلك؟ بل أليست هي دعوة للتخاذل والاتكال علي المجهول؟ وأتساءل: أليس ذلك اليأس والاحباط هو ما أوصلنا إلي ما نحن فيه الآن من نكوص وعودة الي الماضي البعيد؟! وبالرغم من كل هذا الانكسار الذي استغرق فيه كثرة من المثقفين, فإن الوعي العربي بمأساة هزيمة يونيو لم يكن كله وعيا شقيا, فثمة من عكس في سلوكه وتدبيراته نوعا من الوعي الصحي بالفاجعة, فرأي الخلاص في تحمل المسئولية والعمل بمقتضاها, وفي هذا الشاطئ الآخر رأي فريق من العرب إمكان النهوض, بل رأوا نصرا لم تره القصائد الحامية الطوال, نصرا بدا مستحيلا لكثيرين, ولم يره هؤلاء ممن حملوا مسئولية تجاوز الهزيمة مستحيلا, وكان العمل العلمي والدقيق والمخلص والعقلاني الذي فتح طريقا في المستحيل نحو انتصار أكتوبر العام1973, وهو لم يكن انتصارا عسكريا وحسب, بل كان الشق العسكري فيه هو محصلة لجوانب مختلفة من الوعي الصحي بالفاجعة. فهل نعي الدرس في كل فواجعنا, ونتحرك باتجاه الأفق؟!