أي الولاءين يتقدم على الآخر في الدولة الواحدة؟ الولاء الديني أم الولاء الوطني؟ تتضمن الإجابة على هذا السؤال إجابة غير مباشرة على سؤال آخر طالما شغل الأوساط السياسية في العالم العربي، وهو: لماذا تتعاطف الولاياتالمتحدة مع حركة "الإخوان المسلمين"؟ تقول الحركة بالولاء الديني أولاً. بمعنى أن المسلم الإندونيسي مثلاً، هو أقرب إلى المسلم المصري من القبطي المصري. وهذا يفسر تقديم الأمة على المواطنة في ثقافة الحركة وفي عملها السياسي. وتقول حركة "الإخوان" إن الأوطان التي تقيم فيها هي تقسيمات للأمة وتشتيت لإمكاناتها وقواها المادية والمعنوية! ولذلك فإن الحركة في أساس عقيدتها تعادي الدولة الوطنية وتزعم رفع لواء الدولة الأمة.. وهذا هو أساس دعوتها ل"الخلافة"، ول"دولة الخلافة". غير أن المجتمعات في العالم الإسلامي هي مجتمعات متعددة الأديان والمذاهب ومتعددة العناصر والثقافات واللغات. ففي مصر مثلاً حيث تمكنت حركة "الإخوان" من الوصول إلى السلطة، يتشكل المجتمع المصري من أكثرية إسلامية وأقلية مسيحية. ويعني إسقاط الدولة الوطنية إسقاطاً للوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين. قد لا تنجح حركة "الإخوان" في إسقاط هذه الوحدة لإقامة دولة الأمة الإسلامية. لأن في ذلك الكثير من المصاعب والمستحيلات. ولكنها قد تستطيع أن تنجح في هزّ أركان الدولة الوطنية والأسس التي تقوم عليها. ويعني ذلك أن يتطلع المسيحيون المصريون الذين يشكلون حوالي 10 في المئة من السكان (أي حوالي تسعة ملايين نسمة) إلى إقامة دولة خاصة بهم. وهذا ما حدث في السودان المجاور لمصر، حيث أدت سياسة المطالبة بتطبيق الشريعة على الجميع، إلى صب الزيت على نار الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وانتهى الأمر إلى انشقاق الجنوب وإقامة دولته الخاصة. صحيح أنه ما كان للجنوب السوداني أن ينفصل من دون دعم الولاياتالمتحدة في الدرجة الأولى، ودعم الدول الغربية الأخرى، إلا أن تقسيم السودان ليس حلقة منفصلة عن سياق المشاريع التقسيمية التي تستهدف المنطقة العربية، والتي تشمل مصر أيضاً. لقد تصدعت الوحدة الوطنية في العراق، ليس بين العرب والأكراد فقط، ولكن بين السنة والشيعة أيضاً. أي أن هذه الوحدة معرضة للتفتت على خلفية عنصرية ومذهبية معاً.. بعد أن تمت تصفية معظم الوجود المسيحي التاريخي فيه، حيث انخفض عدد المسيحيين من مليون ونصف مليون قبل الاجتياح الأمريكي، إلى أقل من نصف مليون الآن. وتصدعت الوحدة الوطنية في اليمن بين الشمال والجنوب وبين الحوثيين والسلفيين أيضاً. وتصدعت الوحدة الوطنية في ليبيا بين قبائل الشمال وقبائل الجنوب. وبين قبائل الشرق وقبائل الغرب بمن فيهم الأمازيغ. ووصل التصدع حتى إلى تونس على رغم أنها في أكثريتها الساحقة عربية القومية، مالكية المذهب. وتصدعت الوحدة الوطنية في سوريا بعد أن كانت توحدها قبضة حديدية. والوحدة الوطنية مرممة في لبنان بعد أن تصدعت على خلفية دينية. إلا أن الخطر الذي يهدد وحدته الآن هو خطر التصدع المذهبي. ومن هنا فإن انطلاق حركة "الإخوان المسلمين" في مصر نحو الدولة الأمة، يتطلب المرور فوق كيان الدولة الوطنية، ليقسمها إلى دولتين إسلامية تنشد دولة الأمة، وقبطية تسعى مثل جنوب السودان للبقاء والاستمرار بحماية ودعم دوليين. وإذا تقسمت مصر -لا سمح الله- فإن من المشكوك فيه أن تصمد الوحدات الوطنية -التي تترنح تحت ضربات سوء إدارة التعدد الديني والعنصري والمذهبي- في الدول العربية الممتدة من شرق البحر المتوسط وحتى غربه. وهنا يبرز موقف الولاياتالمتحدة. فهي ليست طبعاً مع الدولة الأمة التي ترفع حركة ال"إخوان المسلمين" شعارها، ولكنها مع تقسيم الدول الوطنية. ولذلك فإن سقوط حكم "الإخوان" في مصر أصاب الآمال الأمريكية بنجاح هذا المشروع بالخيبة.. فكان الموقف الاعتراضي على السقوط. في الأساس ليست للولايات المتحدة مصلحة مباشرة في تفتيت الدول الوطنية إلى دويلات. ولكن إسرائيل تعتبر أن استراتيجيتها الأمنية تقوم على هذا التفتيت، لأنه يسقط لأجيال عديدة قادمة أي خطر يمكن أن يتهددها. والتكامل الاستراتيجي الأمريكي- الإسرائيلي (هناك معاهدة حول هذا التكامل وقعت في عام 1982) يحمل الولاياتالمتحدة على تشجيع حركات الانفصال (جنوب السودان وشمال العراق) وحركات ضرب أسس الدولة الوطنية تحت مظلة وهمية هي مشروع الدولة الأمة (حركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن). لقد خسر السودان جنوبه ولم تجد "الشريعة" طريقها إلى التطبيق. وقد تخسر مصر وحدتها ولن تتقدم خطوة واحدة نحو الدولة الأمة. وقد ينهار نظامها السياسي من دون أن تتمكن من أن تخطو خطوة واحدة نحو وهم الخلافة! وبالنتيجة فإن الرابح الوحيد يكون المشروع الصهيوني الذي يستهدف الوطن العربي بالتمزيق والتفتيت! في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي -وكان عمر إسرائيل لا يزيد على ثلاث سنوات- كتب ديفيد بن غوريون أول رئيس حكومة في ذلك الوقت رسالة إلى وزير خارجيته موشي شاريت دعاه فيها إلى وضع خطة عمل لتقسيم لبنان وإقامة دولة مسيحية فيه. وكاد هذا المشروع يتحقق في الثمانينيات لولا الوعي الوطني المسيحي الذي أجهضه. إلا أن الدعم الإسرائيلي التشجيعي والتحريضي لجنوب السودان ولشمال العراق، بدأ يعطي ثماره المحرمة. ولو نجحت حركة "الإخوان المسلمين" في ضرب الوحدة الوطنية في مصر بإقامة دولة دينية -لم يقل بها الإسلام في الأساس- وتحويل المسيحيين فيها من مواطنين إلى "أهل ذمة" على الطريقة العثمانية، فإن كل المنطقة العربية قد تتحول إلى مزرعة لإنتاج هذه الثمار المحرمة! ولكن إسقاط حكم حركة "الإخوان" قطع الطريق -ولو إلى حين- أمام هذا البرنامج. ولذلك استاءت إسرائيل، وعبّرت الولاياتالمتحدة عن هذا الاستياء بمعارضة سلطة ما بعد "الإخوان". وثمة سبب آخر للاستياء الأمريكي المدوي وللاستياء الإسرائيلي الخافت. وهو أن وصول حركة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة شجع حركات التطرف الديني على الخروج من تحت الأرض إلى العلن.. والتعرف على هذه الحركات ومواقعها ورجالاتها هو في حد ذاته مكسب مهم للولايات المتحدة ولأجهزتها الأمنية والاستخباراتية في حربها على الإرهاب والتطرف. ولكن سقوط حكم حركة "الإخوان" أوقف هذه العملية قبل أن تكتمل. وكان ذلك سبباً إضافياً لانزعاج الولاياتالمتحدة. فالسلطة بيد "الإخوان" بدت لحين من الوقت كالنار التي تجذب إليها الفراشات من مخابئها.. حتى إذا تحركت تكون العيون الأمريكية والإسرائيلية لها بالمرصاد تمهيداً للانقضاض عليها. ولكن سقوط "الإخوان"، أي إطفاء النار قبل اكتمال العملية، كان مصدراً وسبباً لخيبة الأمل. لم تؤيد الولاياتالمتحدة حركة "الإخوان" حباً بها أو إعجاباً بمشروعها ولا حتى تقديراً ل"مشروعيتها". فللحركة تاريخ طويل من معاداة الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ولكن مشروع السلطة لدى الحركة الذي يقوم على أساس أفضلية الدولة الأمة على الدولة الوطنية هو الذي أدى إلى تغيّر النظرات المتبادلة. فالحركة تؤمن بمشروع الخلافة الذي يتجاوز كل الدول الوطنية، والولاياتالمتحدة تؤمن باستحالته وتالياً بإمكانية توظيف السعي إليه من أجل تحقيق المزيد من التقسيم والتجزئة في دول العالم العربي. وبالنتيجة فإن التاريخ لا يحكم على النوايا "الحسنة".. ولكنه يحكم على النتائج السيئة. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية