لأن فكرة البعض عن مفهوم الدولة الوطنية تبدو مشوشة وغير واضحة لديهم؛ فإن «منتدى الاتحاد» الثامن الذي عُقد يومي الأحد والاثنين الماضيين يبعث بطاقةٍ معنوية جديدة لدى المثقفين والمفكرين العرب لبذل مزيد من الجهد من أجل توضيح هذا المفهوم الذي تلاعب البعض بمضمونه. ما حدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة في الدول العربية أشاع قدراً كبيراً من القلق والخوف على مستقبل جهود «بناء الدولة» في العالم العربي، لاسيما عندما وصل أصحاب الانتماءات «العابرة للحدود» إلى رأس السلطة السياسية في بعض البلدان العربية. وقد تولّد هذه الفكرة حيرة وقلقاً كبيرين لدى الجيل الجديد الذي لم يستطع أن يوازن بين الانتماء إلى وطنه وتأثير الشعارات السياسية للإسلام السياسي. وبلغة الأرقام، فإن الذين يعتبرون الدولة الوطنية صنيعة المستعمر هم الأقل؛ لكن تأثيرهم خلال الفترة الأخيرة كان كبيراً بفعل سيطرتهم على بعض المؤسسات، سواء من خلال السيطرة على وسائل الإعلام أو على الأجهزة الأمنية والمجالات الثقافية. الدول العربية منذ استقلالها في الستينيات من القرن الماضي تواجه نوعين من الخطاب السياسي. الأمر المشترك في هذين الخطابين أنهما لا يعترفان بحق الدول في انتماء شعبها إليها، وهذا إجحاف في حقوق المواطَنَة. وكأننا شعب مختلف عن بقية الشعوب التي عرفت حدودها وانتماء شعبها إليها، وعملت وفق منهج سياسي وكيان يقدم مصلحة الوطن أولاً حتى ولو كان يؤمن بفكر مختلف. وإذا كان الخطاب القومي العروبي الذي تبنّاه حزب «البعث» ركّز على القومية العربية فإن خطاب الإسلام السياسي الأخطر كان يركز على الدائرة الأوسع حدوداً أينما وُجد «الإخوان». وتكبر المشكلة عندما يقنعون الناس بأن المشكلات التي تمر بها المجتمعات العربية هي حدود الدولة الوطنية، وأن حل كل المشكلات العربية هو بهذا النوع من الولاءات! المشكلة هنا أن المواطن العربي عاش خلطاً فكرياً في انتمائه، فلم يدرك هويته إن كان وطنياً أو عربياً أو إسلامياً، وظل حائراً في الطرف الذي عليه أن يخدمه قبل الآخر. عشنا مآسي في بعض البلدان العربية بسبب أن البعض قدّم مصلحة انتمائه الفكري على وطنه، وربما ما زلنا نعيش بعضها حتى اليوم. وإذا كانت التجارب السابقة جعلت بعض القوميين يعترفون بخطئهم بحق أوطانهم، فإن المرحلة الحالية أصعب من ناحية قوة العاطفة التي تحملها، وهو سبب كافٍ لتناول القضية في منتدى فكري يلتقي فيه المثقفون من أغلب الدول العربية. قانون المواطنة الحقيقية في كل دول العالم يشترط على الفرد الولاء الكامل للدولة، ما يعني أن على كل إماراتي الاعتراف قبل أن يكون إسلامياً أو عروبياً بأنه ينتمي إلى هذه الدولة. وهذا الأمر ينطبق على كل مواطن عربي آخر. وبالتالي يؤدي عدم العمل بذلك إلى إسقاط حق المواطنة، وهذا ما يحدث في كل الدول العريقة. إن عدم ترسيخ هذه الفكرة في عقل الفرد العربي، جعل تلك الخطابات تصيبه بالحيرة في ترتيب الأولويات الوطنية. فإلى اليوم تجد من يبذل جهداً كي يذهب للقتال في جبهات تحت مسميات لا علاقة لها بالأوطان، بل إنه غالباً ما يجلب الضرر والمشكلات لدولته. لا أستطيع أن أحصي كل المواقف التي تدين من أجحفوا بحق الدول التي ينتمون إليها من خلال عدم مراعاتهم حق المواطنة وتصرفهم وفق قناعاتهم السياسية وأهوائهم الشخصية. وإذا كان المثال القريب والحي يتمثل في مطالبة بعض منتمي جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بالتدخل الدولي لإعادة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى السلطة، فإن دعوة القرضاوي الشعب المصري إلى تحدي الجيش ورفض التعامل معه ومقاومته لإعادة مرسي هي دعوة لشق المجتمع المصري. ومن ذلك أيضاً الحملات الإعلامية ضد رموز الدولة السياسية خدمة لقناعات لا علاقة لها بالدولة التي ينتمون لها، بل تلبية لدعوة جماعة «الإخوان»، وهذا خروج وتعدٍّ على المواطنة أيضاً. المسألة هنا أنه يجب التفريق بين الخلاف السياسي وحقوق المواطنة وبالتالي فإن الخلاف السياسي لا يعطي المرء حق الإساءة إلى دولته والعمل ضدها. لدينا قصص مضادة من قبل الشباب العربي الذين يرفضون الإساءة إلى دولهم وإلى رموزها السياسية، وهي دلالة على انتشار روح المواطنة الحقيقية وهي نماذج قد تبدو غير مؤثرة، لكنها تنمو بقوة لاسيما من خلال التفاعل مع مؤسسات الدولة. وهم يقدمون مصلحة أوطانهم على قناعاتهم السياسية. سمعنا قصصاً عن حملات لتنظيف مصر، وسمعنا عن قصص الإيداعات المالية لدعم الاقتصاد المصري. ووجدناهم في الإمارات من خلال التفاعل مع القيادة السياسية ومن خلال التعبير عن رفضهم المساس بالرموز الوطنية للدولة... وهذا يدل على أن روح الدولة الوطنية بدأت تنتشر، وهي تدل على مشاعر الانتماء إلى جغرافيا سياسية للوطن والاعتزاز بها. لقد أدرك الشباب العربي حقيقة أصحاب الشعارات العاطفية وكونهم يستخدمونها من أجل إلهائهم عن المطالبة بحقوق المواطنة. ولأنهم ليس لديهم برامج يمكن أن تبني دولاً فأبسط أسلوب إلقاء اللوم واستخدام نظرية المؤامرة. الصورة لدى المواطن العربي كانت معكوسة، واليوم تلقي جريدة «الاتحاد» الكرة في ملعب المثقفين كي يقوموا بدورهم الوطني. معنى هذا أن ما تم في المنتدى موجود على الأرض، وبالتالي فالمنتدى يعكس وجود رؤية مميزة وحسابات سياسية تستشرف المستقبل البعيد للدولة الوطنية وللعمل العربي المشترك؛ كما يحدث في كل دول العالم. ما كان الاهتمام والانشغال بفكرة الدولة الوطنية في العالم العربي بهذه الأهمية لولا التحديات السياسية التي أوضحت مواقف تهدد الكثير من الإنجازات التنموية في الدول العربية. وإنه إذا كان المنتدى قد أطلق الشرارة كي يقوم المثقفون العرب بتوسيع دائرة مناقشة مفهوم الدولة الوطنية، كي تتضح الصورة أكثر، فإنه ينبغي أن تكون أكثر نضجاً وتضع مصلحة الدولة الوطنية قبل أي شيء آخر. نقلا عن صحيفة الاتحاد