سعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم الخميس    خبير اقتصادي يوجه رسالة لمحافظ البنك المركزي بشأن السوق السوداء للدولار    الإسكان: جارٍ تنفيذ 1356 شقة ب "سوهاج الجديدة".. و5.7 مليار جنيه إجمالي الاستثمارات بالمدينة    بعد انتهاء عيد الأضحى 2024.. أسعار الحديد والأسمن اليوم الخميس 20 يونيو    بوتين من فيتنام: دعم الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين موسكو وهانوي    وول ستريت جورنال: 66 من المحتجزين في غزة قد يكونوا قتلوا في الغارات    أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني في العالم    انقطاع الكهرباء عن ملايين الأشخاص في الإكوادور    إعلام إسرائيلي: نتنياهو وافق على تشكيل هيئة وزارية أمنية مصغرة بمشاركة بن غفير    يورو 2024، موعد مباراة إنجلترا والدنمارك والقناة الناقلة    أزمة في عدد من الأندية السعودية تهدد صفقات الموسم الصيفي    أول تحرك لنادي فيوتشر بعد إيقاف قيده بسبب "الصحراوي"    قرار من النيابة بشأن سقوط شرفة منزل على 4 سيدات ببولاق    بعد وفاة مئات الحجاج وفقدان آخرين.. كيف نحمي أنفسنا من الإجهاد الحراري؟    غرق شاب عشريني في أحد بشواطئ مطروح    تركي آل الشيخ : "ولاد رزق 3" أول فيلم يتخطى حاجز ال100 مليون في أسبوع    سهرة وعشوة.. القصة الكاملة لمحاولة قتل الشيخ محمد صديق المنشاوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 20-6-2024    هل يجوز أداء العمرة بعد الحج مباشرة؟ توضيحات دار الإفتاء    طواف الوداع: حكمه وأحكامه عند فقهاء المذاهب الإسلامية    الإفتاء توضح حكم هبة ثواب الصدقة للوالدين بعد موتهما    ثلاثة أخطاء يجب تجنبها عند تجميد لحوم الأضحية    منتخب السويس يلتقي سبورتنج.. والحدود مع الترسانة بالدورة المؤهلة للممتاز    دراسة بجامعة "قاصدي مرباح" الجزائرية حول دور الخشت فى تجديد الخطاب الدينى    تصل إلى 200 ألف جنيه، أسعار حفلة عمرو دياب بالساحل    سعر الذهب اليوم في مصر يهبط ببداية تعاملات الخميس    مطار القاهرة يواصل استقبال أفواج الحجاج بعد أداء مناسك الحج    «تجهيز مابولولو وعودة الوحش».. الاتحاد السكندرى يستأنف تدريباته استعدادًا لفاركو في الدوري    غلق منشأة وإعدام 276 كيلو أغذية منتهية الصلاحية بجنوب سيناء    تركي آل الشيخ يدعو أسرتي مشجعتي الأهلي لأداء مناسك العمرة    خبير فلسطينى: ما تطرحه واشنطن وبايدن لوقف إطلاق النار بعيد عن التنفيذ    القضاء الفرنسي يحاكم امرأتين أدعتا أن بريجيت ماكرون متحولة جنسيا    كيفية الشعور بالانتعاش في الطقس الحار.. بالتزامن مع أول أيام الصيف    في هانوي.. انطلاق المباحثات الثنائية بين الرئيس الروسي ونظيره الفيتنامي    مبدأ قضائي باختصاص القضاء الإداري بنظر دعاوى التعويض عن الأخطاء    اسعار حفلات عمرو دياب في مراسي الساحل الشمالي    مصرع شخصين وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم بكفر الشيخ    تعرف على خريطة الكنائس الشرقيّة الكاثوليكية    سبب الطقس «الحارق» ومتوقع بدايته السبت المقبل.. ما هو منخفض الهند الموسمي؟    الآلاف في رحاب «السيد البدوى» احتفالًا بعيد الأضحى    هيئة الداوء تحذر من 4 أدوية وتأمر بسحبها من الأسواق    أسرع مرض «قاتل» للإنسان.. كيف تحمي نفسك من بكتيريا آكلة اللحم؟    yemen exam.. رابط الاستعلام عن نتائج الصف التاسع اليمن 2024    التخزين الخامس خلال أيام.. خبير يفجر مفاجأة بشأن سد النهضة    يورو 2024| صربيا مع سلوفينيا وصراع النقاط مازال قائمًا .. والثأر حاضرًا بين الإنجليز والدنمارك    «آخرساعة» في سوق المدبح القديم بالسيدة زينب| «حلويات المدبح»    تشييع جثامين أم وبناتها الثلاث ضحايا حادث انقلاب سيارة في ترعة بالشرقية    هل يسمع الموتى من يزورهم أو يسلِّم عليهم؟ دار الإفتاء تجيب    تحت سمع وبصر النيابة العامة…تعذيب وصعق بالكهرباء في سجن برج العرب    "تاتو" هيفاء وهبي وميرهان حسين تستعرض جمالها.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حمدي الميرغني يوجه رسالة ل علي ربيع بعد حضوره مسرحية "ميمو"    خاص.. موقف الزمالك من خوض مباراة الأهلي بالدوري    حظك اليوم| برج الحمل الخميس 20 يونيو.. «وجه تركيزك على التفاصيل»    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 20 يونيو 2024 في البنوك    مشروبات صحية يجب تناولها عقب لحوم العيد (فيديو)    تعرف علي المبادرات التي أطلقتها الدولة المصرية لتدريب الشباب وتأهيلهم وتمكينهم    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج بكالوريوس الطب والجراحة (الشعبة الفرنسية) جامعة الإسكندرية    مايا مرسي تستقبل رئيس الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالناصر سلامة: نكبة العرب..!
نشر في أخبار مصر يوم 05 - 04 - 2013

في حديثه معي بمقر رئاسة الوزراء بالعاصمة العراقية بغداد قال السيد نوري المالكي رئيس الوزراء هناك: إننا في عالمنا العربي قد أزحنا أنظمة دكتاتورية فاسدة.. إلا أننا أيضا يجب أن نعترف بأن بلادنا قد وقعت فريسة للتطرف والتشدد والإرهاب, وأصبحت الطائفية كلمة السر, التي تجمع بين العواصم العربية من المحيط إلى الخليج الآن, مشيرا في هذا الصدد إلى دعم مادي ومعنوي من بعض دول المنطقة للأسف.
وفي مناقشات مع وزراء ومسئولين عراقيين آخرين, أشاروا بصراحة تامة إلى دور كل من قطر وتركيا في هذه الأزمات, خاصة فيما يتعلق بالشأن العراقي, الذي يشهد الآن تفاعلات على كل الأصعدة, وبقدر ما يضم هذا المجتمع بين جنباته من طوائف مذهبية وتجمعات عرقية, وأشتات سياسية بقدر ما ترتفع فيه حدة السخونة التي لاتخفي أبدا مآرب التقسيم والخروج من عباءة بغداد مادامت الكتلة الجغرافية المستقلة غنية بثروات طبيعية, وقد وجدت في الوقت نفسه المظلة الخارجية.
وإذا كان العراق, تحديدا, في موقف لا يحسد عليه داخليا, فعلى المستوى الخارجي ربما كان الموقف أكثر إثارة, حيث أزمات دول الجوار المتصارعة بدءا من الحرب المتفاقمة في سوريا, مرورا بأزمة إيران مع المجتمع الدولي, وعلاقات ريبة مع تركيا تراها بغداد محاولات للتوسع وتحقيق الأطماع, ثم إرث مفعم بالجراح مع الكويت, وبرود يصل إلى حد التوجس مع بقية دول الخليج.
والعراق, الذي قضي ثماني سنوات في حرب طاحنة مع إيران ثم حصار دولي استمر ثلاثة عشر عاما عقب غزو الكويت, لم يستطع الآن, وعلى مدى عشر سنوات أخرى بعد سقوط نظام صدام حسين, أن ينهض من عثرته لأسباب عديدة, أهمها الطائفية التي نخرت في أوصال المجتمع السني والشيعي معا, ثم جاءت العرقية ممثلة في الأكراد بالشمال لتزيد من تعقيدات الخريطة السياسية, ولذلك يعترف رئيس الوزراء بأن تقسيم العراق لم يعد أمرا مستحيلا!
وشأن بقية الدول العربية, هناك في العراق مثقفون وليبراليون, وربما أيضا رجال دين يستنكرون ذلك السلوك الذي ينزع إلى التقسيم إدراكا منهم أهمية الكيان العراقي التاريخي, إلا أن مثل هذه التيارات قد تتراجع أصواتها أمام حدة العنف وأصوات التفجيرات وانتشار السلاح, وبذلك يصبح المواطن العراقي كما الوطن تماما ضحية التطرف والمخططات الخارجية وسط عجز الدولة الرسمية التي باتت تترقب تطورات الأوضاع في دول الجوار إدراكا منها أنها ليست بمنأى عن النتائج هنا أو التفاعلات هناك, ولذلك لم يكن غريبا أن يقر رئيس الوزراء العراقي بمخاوفه من تداعيات الأحداث في سوريا على بلاده, وخاصة إذا أصبحت في قبضة فئة متطرفة أو متشددة, على حد قوله, في حالة سقوط النظام هناك, بل إنه أكد أن الأزمة السورية بوضعها الحالي كانت سببا رئيسيا في تفاقم الأوضاع الطائفية ببلاده.
وهنا فقط يمكن أن نتفهم الموقف العراقي الذي رفض, ومازال, منح مقعد سوريا في جامعة الدول العربية- كما حدث في القمة الأخيرة بالدوحة إلى المعارضة, التي رآها العراق سابقة خطيرة, سوف تفتح الباب واسعا في المستقبل لمثل هذا النوع من الممارسات, ولذلك لم يكن غريبا أن نجد هجوما شرسا من نواب في البرلمان الأردني, قبل عدة أيام, خلال جلساته الرسمية, على كل من قطر والسعودية في هذا الصدد, بل وصل الأمر إلى حد الاستياء من وجود اللاجئين السوريين هناك, كما لم تخف بعض الأقلام العربية موقفها المناهض أيضا لهذا الإجراء العربي على الرغم من تأييد عواصمها رسميا له, وهو الأمر الذي يؤكد حالة التشرذم التي تعيشها الأمة العربية الآن, وحالة الهوة الواسعة أو الفجوة العميقة بين الحكام والمحكومين في وقت كان من المفترض فيه أن تلقي رياح الربيع العربي بظلال من الترابط والوئام سواء بين الأنظمة المختلفة أو بين الأنظمة والشعوب إلا أن العكس هو الذي حدث.
والغريب في الأمر أن الدول العربية, التي ساندت في معظمها الشعب العراقي للإطاحة بنظام صدام حسين, أصبحت الآن أكثر انغلاقا في التعامل مع النظام الحالي, والدليل على ذلك أن حجم التبادل التجاري مع مصر الآن على سبيل المثال لا يتجاوز نصف مليار دولار, في الوقت الذي كان يتجاوز فيه أربعة مليارات مع نظام صدام حسين, بل كان يتجاوز ثلاثة مليارات في زمن الحصار, وهو الأمر الذي يؤكد أن الموقف العربي حينذاك كان خاضعا للموقف الأمريكي الغربي ليس إلا, بل إن عبور المواطنين من وإلى الدولتين لم يكن يحتاج إلى تأشيرة دخول في الماضي, أما الآن فقد أصبح الأمر في غاية التعقيد- على حد قول أحد الوزراء العراقيين- ومعني ذلك أن الأنظمة السابقة كانت أكثر انفتاحا على بعضها بعضا لما فيه مصلحة الشعوب, أما الآن فقد أصبحت أنظمة الثورات العربية تعيش حالة من التوجس فيما بينها على الرغم من حاجة الشعوب الماسة لذلك الانفتاح أكثر من أي وقت مضى.
إلا أننا يجب أن نعترف بأن العروبة في السابق كانت هي الدافع الأساسي والوازع المحرك لذلك التضامن بين هذه الأقطار المتجاورة, أما الآن فقد أصبحت المذهبية والأيديولوجية هما العامل الرئيسي في توطيد العلاقات أو اهترائها بين هذا القطر أو ذاك بعد أن اختفت الوسطية من حياتنا واعتلى سدة الحكم متشددون هنا أو متطرفون هناك, وهو ما ينذر بمزيد من الانقسام, ومن ثم التقسيم الذي أصبح يخيم على معظم الأقطار, حيث كشفت الأحداث عن عورات عديدة, كانت تتخفى خلف أستار بالية ما لبثت أن تهاوت مع أول اختبار حقيقي للديمقراطية على الرغم من أن الدين الإسلامي الحنيف على اختلاف مذاهبه يصون النفس البشرية بنصوص لم تصل إليها أي ديمقراطيات أو مواثيق حتى الآن ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا كما دعا إلى إعمال العقل بنصوص تحمل الكثير من المعاني والدلالات أفلا تتفكرون, أفلا تعقلون, أفلا يتدبرون, إلا أن الأمر قد تجاوز, فيما يبدو, الإطار الديني الحقيقي إلى أطر سياسية نفعية وأصبح الدين مجرد واجهة لاستقطاب العامة.
ومن هنا نستطيع تأكيد أن الدين بمفهومه الصحيح لا يمكن أن يمثل أزمة في إدارة شئون الحياة أو في علاقة الحاكم بالمحكوم, إلا أن استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية هو الأزمة الحقيقية التي تعيشها مجتمعاتنا الآن وإلا لكانت هذه الأنظمة التي خرجت من عباءة الدين قد التقت على كلمة سواء أيا كانت مذاهبها, ففي يوم لقائي مع رئيس الوزراء العراقي كانت تتواتر الأنباء عن تشييع ثلاثة جثامين بالفلوجة من بينهم أحد علماء الدين السنة وأصابع الاتهام تشير إلى الحكومة, وفي اليوم نفسه تواترت الأنباء عن قيام مسلحين بالهجوم على مقار أربع صحف بالعاصمة بغداد وتدميرها وحرقها لحساب أحد المراجع الشيعية الذي ضاق ذرعا بانتقاداتها له, وفي اليوم نفسه كان أهالي محافظة الأنبار- وهي محافظة سنية يحتشدون في ساحة العزة والكرامة بمدينة الرمادي للاحتفال بدخول اعتصامهم يومه المائة, وفي اليوم نفسه أيضا أعلن عن إعدام أربعة أشخاص من تنظيم القاعدة, في الوقت الذي أكدت فيه بعض المصادر أنهم ثلاثون شخصا.
إذن لنا أن نتخيل حجم المأساة التي يعيشها الأشقاء في العراق جراء التطرف والتشدد وسط انفلات إعلامي يتبنى بوضوح تام هذه المواقف, بل يحرض نحوها على الرغم من وجود قوانين صارمة تنظم التناول الإعلامي هناك, وربما لا تخلو أي مناقشات في هذا الصدد من الربط بين الأداء الإعلامي في العراق ونظيره في مصر على اعتبار أنها حالة عامة في البلدين تدعمها المصالح الشخصية والتمويل الأجنبي في معظم الأحيان, كما لنا أن نتخيل أيضا أن منابر المساجد تلعب دورا أكثر خطورة في تأجيج مشاعر الغضب والكراهية بات معها المواطن العراقي في حالة استنفار دائم في بلد حققت فيه المصاهرة والتزاوج بين الطوائف المختلفة نسبا عالية جدا في زمن حكم الفرد أو في زمن الدكتاتورية, أما حينما دخل الخطاب الديني المتشدد إلى الساحة الاجتماعية فقد تراجعت هذه النسبة تماما وتحولت هذه الإيجابية إلى حالات طلاق شبه جماعية في أوساط الأسر العراقية كان الأطفال أولى ضحاياها.
وإذا كانت هناك مخاوف لدى الجانب العراقي من تأثير ذلك الذي يحدث في سوريا على الأوضاع هناك, فأعتقد أن العراق لن يكون نهاية المطاف في الأزمات الطائفية بالعالم العربي, وخاصة دول الخليج العربي, وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية, التي يرى العراقيون أنها لن تكون بمنأى أبدا عن هذه الأحداث في المستقبل, وهو الأمر الذي كان يجب أن تدركه هذه الدول مبكرا, إلا أنه قد بدا واضحا أن الأمور قد خرجت عن السيطرة وسبق السيف العذل, وأصبحت خريطة التقسيم الطائفية واقعا لا مفر منه بأموال خليجية, ووهن عربي, ومباركة دولية, وهو ما يشير إلى أن الربيع العربي سوف يمتد إلى ما هو أكثر من خريف, بمزيد من سفك الدماء والقتل والخراب تحت شعارات: الديمقراطية والانفصال والاستقلال, وستار الدين الذي هو في الحقيقة براء من كل هؤلاء وأولئك, ولا عجب إذن من أن نجد هنا وهناك من يترحم على الماضي بكل مآسيه ويرفض الحاضر بكل آلامه ويخشى المستقبل بكل ما قد يحمله من مآس أصبحت واضحة للعيان.
أعتقد أن العرب مطالبون الآن بوقفة مع النفس والضمير قد يمكنها إدراك ما يمكن إدراكه من أجل مصلحة شعوبهم قبل أن يندثر مصطلح العروبة أو القومية العربية إلى مذبلة التاريخ ويصبح مقر جامعة الدول شاهدا على العار والشنار, بعد أن كان جامعا للكبار الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى صغار تسلموا أوطانهم عزيزة مترابطة وسلموها إلى الأجيال الجديدة مهينة متفككة ينخر فيها الحقد بين أبناء الوطن الواحد, وليس ذلك فقط بل حملوا السلاح في مواجهة بعضهم بعضا وسالت دماء غالية كان الأجدر بها أن تسيل على أبواب فلسطين المحتلة أو الأقصى الأسير إلا أنه الغباء الذي ظلل العقول والغل الذي طمس القلوب وعبادة السلطة التي لم يجن من ورائها السابقون سوى غياهب السجون وظلمات القبور وما الماضي منا ببعيد.
سوف نعترف, ويجب أن نعترف بأن الدين جزء أساسي من مكونات الشخصية العربية مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا, وهو أمر لا غبار عليه ولا ضير فيه, إلا أن المطلوب الآن هو أن تتصدر تيارات الاعتدال المشهد السياسي في عالمنا العربي, ويمكن تشكيل محور مهم في هذا الصدد تقوده مصر الأزهر, التي كانت, ويجب أن تظل, واحة للوسطية وفهم الإسلام الصحيح, ولم أجد خلافا في ذلك مع رئيس وزراء العراق الذي يرى أن مصر يجب أن تتحمل مسئوليتها في هذا الشأن باعتبارها الدولة الأم, والشقيق الأكبر المؤهل لذلك بالفعل, إلا أن الأمر يتطلب أولا أن نبدأ بأنفسنا داخل مصر, وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه, ولتكن البداية أيضا بالأزهر الذي يجب أن يتصدر دون غيره المشهد الديني, وذلك لثقة المواطن فيه من جهة, وثقة العالم العربي من جهة أخرى, وليظل ذلك الصرح شاهدا على الإسلام الصحيح, وخاصة في هذه المرحلة التي تمثل نكبة عربية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
بغداد التى كانت..!
لا يتسع المقام هنا بالتأكيد للحديث عن بغداد, وتاريخ بغداد, والخلافة الإسلامية في بغداد, وشعراء بغداد, وفقهاء بغداد, وعلماء بغداد, إنما فقط أردت الحديث عن الحالة المزرية التي وصلت إليها بغداد.. هذه المدينة التي ما تلبث أن تنهض حتى تتعرض إلى أعنف قصف في تاريخ الحروب, وما تلبث أن تتعافى إلا وتقع أسيرة لحصار اقتصادي ربما أكثر قسوة, وما تلبث أن تلفظ أنفاسها إلا وتعيش حالة من الخوف والرعب جراء تفجير سيارة هنا, أو عملية انتحارية هناك.
فقد أصبح الخوف والرعب من السمات العامة لسكان بغداد, هذه المدينة التي يقطنها نحو خمسة ملايين نسمة, يذهب كل منهم إلى العمل, أو الدراسة, أو الأسواق كل صباح, ولا يدري إن كان سيعود أم لا؟!, آثار الحرب والعنف معا مازالت تظلل وجه بغداد, وعلامات الحزن والمعاناة تخيم على وجوه سكانها, والإهمال واللامبالاة علامتان بارزتان بشوارعها, بغداد تبدو باكية تتألم, ولا أحد يعلم, إلا الله, من ذا الذي يمكنه مسح دمعتها؟.. ومتى؟, ومن ذا الذي سوف يطببها؟.. وإلى أي مدى يمكن أن تعود, كما كانت, فتية, شامخة, منتصرة؟.
بغداد, التي كان يقطنها أكثر من مليون مصري, يوما ما, أصبحت الآن تضيق بأبنائها, بعد أن وصلت أسعار العقارات هناك لأرقام غير مسبوقة عالميا, ومواطن بغداد الذي كان يحصل على أعلى أجور ورواتب في المنطقة, أصبح الآن في المرتبة الدنيا, ودينار بغداد, الذي كان يشتري ثلاثة دولارات أمريكية, أصبح الآن يباع مقابل الدولار الواحد بنحو 1300 دينار, لنا أن نتخيل إذن حجم المأساة, على الرغم من أننا أمام بلد يصدر ثلاثة ملايين برميل نفط إلى العالم الخارجي بصفة يومية, وأمام بلد يتمتع بثروات طبيعية وتاريخية, من مياه, وأرض زراعية, وسياحة دينية, وجمال طبيعة منقطع النظير, إلا أنها النفس البشرية التي أبت الاستجابة للأمر الإلهي بإعمار الأرض, فراحت تنشر الفساد, وتتصارع فيما بينها على سفك الدماء.
لقد زرت بغداد للمرة الأولى عام 1988 لتغطية الحدث العالمي, في ذلك الوقت, وهو بدء وقف الحرب العراقية الإيرانية في السابعة من صباح 20 أغسطس, عقب إعلان الإمام الخوميني الموافقة على وقف القتال وكأنه يتجرع السم, على حد قوله, وقد احتفل البغداديون وقتها كما باقي العراقيين بانتهاء الحرب الدائرة على مدى ثمانية أعوام وبدء السلام, وكانوا أكثر إقبالا على الحياة, وأكثر بهجة من أي وقت آخر, على الرغم مما خلفته الحرب من مآس عديدة, لم تسلم معها أي أسرة عراقية من فقدان شخص أو أكثر.
وبعد عشر سنوات, أي في 1998, زرت بغداد لتغطية آثار الحصار الدولي على الحياة هناك, وكان المواطن في حالة يرثي لها عقب قصف أمريكي ودولي دمر معظم مقومات الحياة, محققا تهديدات جيمس بيكر, وزير الخارجية الأمريكي آنذاك, لطارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت, إننا سوف نعيدكم إلى العصر الحجري, وقد تحقق ذلك, وظل حال المواطن العراقي هكذا إلى أن تحقق أيضا هدف الإطاحة بالنظام, من خلال حرب أخرى وقصف آخر أكثر شراسة, فكان من الطبيعي أن تزداد الحال بؤسا وضنكا, إلا أن الوضع المهترئ حاليا, وعلى مدى عشر سنوات, هو من صنيعة العراقيين أنفسهم, يعبثون بوطنهم تحت مسميات واهية, وصراعات وهمية, فكانت بغداد ضحية لذلك الصراع, وقد هانت على أهلها, كما هانت بقية الأراضي العراقية على النخبة.
الدبابات والمدرعات, ولجان الأمن, والجيش; أصبحت جميعها تشكل منظومة الحركة في بغداد, وعمليات التفتيش, والمتابعة, والمراقبة; أصبحت أمرا طبيعيا يعيشه سكان بغداد, وانقطاع الكهرباء, وتدني مستوى المعيشة, وحالة الكآبة والتوتر والقلق; أصبحت سمة الحياة في بغداد, والرد الطبيعي من المسئولين على كل علامات الاستفهام هذه هو علامة استفهام أيضا: وكيف يمكن أن نبني أو ننطلق في ظل هذا العنف القائم وأعمال الإرهاب التي لا تتوقف؟!.
قال لي أحد المثقفين العراقيين ببغداد: إن أكثر ما يؤلمنا هو ابتعاد العرب عنا عقب سقوط النظام السابق مباشرة بدعوى أن العراق أصبح نظاما شيعيا يقترب من إيران؟, والسؤال هو كما يضيف ولماذا جعلتمونا نفعل ذلك؟, بالتأكيد سوف نضطر إلى ذلك في حالة انسحاب العرب من المشهد, وخاصة أن هناك الكثير من العراقيين في السلطة الآن كانوا يعيشون في إيران سنوات طويلة أيام النظام السابق, ولإيران فضل عليهم, ولكن نحن في النهاية دولة عربية.
وقال لي شاب عراقي: أنا أتابع أخبار مصر أكثر من أي شيء آخر, وأتألم كثيرا لآلامها, وأحب المصريين كثيرا, وأتمنى أن أراهم هنا في بغداد كما كان الوضع في السابق, فهم الأقرب لنا نفسيا, كما أتمنى أيضا زيارة مصر, وبهذه المناسبة أود أن أشير إلى أن شوارع بغداد تعج بإعلانات السياحة إلى كل من تركيا ولبنان, إلا أن التأشيرة المصرية العقيمة قد استبعدت مصر من المشهد السياحي هناك, كما أود أن أشير أيضا إلى أن الطلاب العراقيين يفضلون الدراسة بالجامعات المصرية على غيرها من جامعات الدول المجاورة, إلا أن علاقات البلدين حتى الآن ليست على المستوى الذي يدعم ذلك التوجه.
على أي حال.. سوف تظل القاهرة وبغداد حالة خاصة متلازمة في تاريخ الحضارة الإنسانية, وسوف يظل أنين بغداد يمثل صداعا في رأس القاهرة, والعكس صحيح أيضا, شئنا أم أبينا, وسوف تزول الأنظمة, وتبقي الشعوب التي تدرك ذلك وتؤمن به, وأعتقد أن بغداد, والقاهرة, بهما من النخب الثقافية والعلمية ما يؤهلهما لتصدر هذا المشهد, إلا أن الأمر يتطلب بالضرورة إرادة سياسية, ومن الغباء أن تستمر الأوضاع كما هي, ومن الفطنة أن نترفع عن الهواجس المذهبية.
‬نقلا عن جريدة الأهرام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.