يُعد التفجير الانتحاري الذي أودى بحياة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وأكثر من خمسين ضحية غير عشرات الجرحى، بجامع الإيمان بحي المزرعة، وسط دمشق، نهاية مأساوية حزينة لمرجع ديني يعد من أهم المرجعيات السنية الدينية على مستوى العالم الإسلامي. وطبقاً للإعلام السوري الذي أذاع خبر استشهاد الشيخ العلامة الكبير -رحمه الله تعالى- فإن انتحارياً فجّر نفسه داخل الجامع بينما كان البوطي يلقي درسه الديني الأسبوعي بين طلابه ومريديه، بين صلاتي المغرب والعشاء، وتسبب الانفجار في مقتل جميع الموجودين وإصابة آخرين بجراح وتدمير كبير. الشيخ رحمه الله تعالى من كبار علماء السنّة ويعد من أكثرهم اعتدالاً وتيسيراً في فتاواه واجتهاداته، وقد ترك مؤلفات فقهية وعلمية غزيرة وتتلمذ على يديه أجيال من طلاب العلم الديني، حيث كان يشغل رئيساً لقسم العقائد والأديان بكلية الشريعة بجامعة دمشق ورئيساً لاتحاد علماء الشام، وكانت له آراء ومواقف وفتاوى تتسم بالجرأة والاستقلالية، لم يكن الشيخ يأبه برأي العامة ولا يهاب الرأي العام وما كان يمالئ تيار الإسلام السياسي وبخاصة «الإخوان» بل يجهر بمعارضته لهم وما كانت علاقته طيبة بهم. وتُعد كتب البوطي الفقهية مراجع هامة تُدرَّس ويرجع إليها الباحثون وطلاب العلم الديني. ما حصل للشيخ ومن معه وفي بيت من بيوت الله تعالى، جريمة مروعة ومستنكرة من قبل جميع الأطراف، وقد تبرأ منها الجميع وأدانوها بشدة، المعارضة والنظام، وإن تبادلا اتهام بعضهما بعضاً، وحمّل كل منهما الآخرَ مسؤوليةَ هذه الجريمة النكراء. ولسنا في هذه المقالة بصدد اتهام طرف معين ولا البحث عن الدوافع التي حفزت الجناة لاستهداف الشيخ وفي هذا الوقت بالذات، كما أننا لسنا معنيين بالحجج والمبررات التي يسوقها كل طرف ضد الآخر لتأييد اتهامه للآخر، ولا تعنينا معرفة من المستفيدين من قتل الشيخ، لكن المعروف في الساحتين العربية والسورية أن البوطي عُرف بفتاواه وآرائه ومواقفه المساندة للنظام ضد المعارضة والثوار، ويأخذ عليه منتقدوه عشرات الفتاوى التي تصب في مصلحة النظام، وخلاصة هذه الفتاوى لا تخرج عن وجوب السمع والطاعة للنظام والحكم وعدم الخروج على الحاكم إلا أن يعلن جهاراً نهاراً الكفر! لذلك فإن الشيخ البوطي -رحمه الله تعالى- في رأي معارضيه وناقديه، شكّل بمواقفه وفتاواه «الغطاء السني الشرعي» للنظام السوري، وأعتُبر مقتله، رفعاً لهذا الغطاء الديني. لست هنا بصدد الحكم على هذه الفتاوى أو تقييمها ولا حتى محاكمة الشيخ في تقربه من النظام، لكن ما يعنيني هنا، توضيح ثلاثة أمور عامة استخلصها من موقف عالم الدين من السلطة السياسية في مجتمعاتنا وهي تنطبق على البوطي وغيره من العلماء الذين يتقربون من السلطة، أو فلنقل يتورطون وينزلقون في وحل السياسة. أولاً: إن تسييس الدين وتحويل منابر بيوت الله تعالى إلى منابر لبث آراء وفتاوى سياسية، آفة خطيرة، ابتدعها تيار الإسلام السياسي أي خطباء «الإخوان» وهم في ذلك لا يقلدون علماء إيران الذين حولوا مساجدهم إلى منابر سياسية، وهذه ظاهرة منتشرة في هذه الأيام في مجتمعاتنا العربية بعد أن استولت جماعات الإسلام السياسي على زمام القيادة في مجتمعاتها، ومعنى تسييس المنبر الديني، أن الخطيب يتحول إلى أداة سياسية لخدمة النظام القائم، فيصبح طرفاً أو خصماً سياسياً في مواجهة آخرين يعارضون النظام، من هنا يكون مستهدفاً من قبل أطراف عديدة تحارب النظام بل قد يكون مستهدفاً من النظام نفسه في مرحلة من المراحل التي يستشعر النظام أن الشيخ الخطيب قد ينقلب عليه وينضم إلى عدوه بل إن النظام قد يضحي به إذا وجد في ذلك مصلحة سياسية معينة كتشويه الخصم واتهامه باستهداف المشايخ وتحريض الناس عليه. ثانياً: فتاوى الشيخ البوطي والتي تصب في مصلحة النظام، تُفنِّد مطالب الذين ينادون -دائماً- عبر الفضائيات والصحف، وهم كثر، بقصر الفتاوى على العلماء ( الثِّقات) المستوفين شروط الفتوى وضوابطها، ومنع من لم يستوف هذه الشروط من الإفتاء في الفضائيات، وذلك حلاً لفوضى الفتاوى التي تعصف بمجتمعاتنا، فالشيخ البوطي، عالم ثقة، ورمز من رموز الاعتدال والوسطية، وقد استوفى كافة الشروط والضوابط المؤهلة للإفتاء، ومع ذلك فإن فتاواه -في رأي معارضيه- كانت خطرة ومؤذية لأنها تناصر الظالمين، ومضللة للكثيرين، بل إني أضيف بأن معظم الفتاوى المعاصرة وأقصد بها السياسية، في السنوات العشر الأخيرة والتي سببت أزمات وأخطاراً ودفعت إلى ميادين الهلاك وغذّت النزعات التعصبية والطائفية، ورسخت الكراهية وكفّرت الكتاب والفنانين وحرّضت على العنف وعلى عدم قبول الآخر بل ودافعت وبررت لزعيم «القاعدة» فعلته الإجرامية الكبرى... كان وراء هذه الفتاوى، علماء «ثقات» يوصفون بأنهم رموز الاعتدال والوسطية. فالذي أفتى بقتال من تعاون مع المحتل الأميركي في العراق، عالم «ثقة»، والذي أباح العمليات الانتحارية، عالم «ثقة»، والذي هدّد الغرب بأنه إذا كان عندهم القنابل الذرية فعندنا القنابل البشرية، عالم «ثقة»، والذين طالبوا بمقاطعة البضائع الأميركية والدنماركية، علماء «ثقات»، والذين حرَّموا تهنئة المسيحيين بعيدهم، علماء «ثقات»، والذين رأوا في الزرقاوي شهيداً، علماء «ثقات»، والذين ناصروا صدام في عدوانه الإجرامي على الكويت، علماء «ثقات»، والذي أفتى بإرضاع الموظفة لزميلها في العمل لنفي حرمة الخلوة، عالم «ثقة»، وهو رئيس قسم الحديث في أعرق جامعة دينية! والذي أفتى بقتل ملاك الفضائيات «الماجنة» عالم «ثقة»! وهكذا لو استرسلنا لوجدنا العشرات من هذه الفتاوى التي أساءت إلينا وإلى الإسلام، ولتأكدنا أن مصائبنا إنما أتت من مشايخنا «الثقات» لا الهواة، فليس الحل في احتكار الفتاوى ولا في تأميمها بل في إعمال العقل ورفع وعي الناس حتى يتحملوا مسؤولية قراراتهم ولا يتكلوا على الفتاوى. ثالثاً: استهداف الخصوم وهم في بيوت الله تعالى، منهج ابتدعته «القاعدة» ثم أصبح ظاهرة عامة في العالم الإسلامي وقدوة متبعة، حيث أصبح أمراً عادياً أن نقرأ كل يوم عن تفجير انتحاري في مسجد في العراق وفي باكستان يودي بعشرات المصلين، وأصبح الجناة القتلة اليوم- لا يراعون حرمة لمسجد ولا لشهر ولا لمجلس عزاء بل أصبحوا يزرعون متفجرات في جنازة فتنفجر في الأقارب المحزونين. ختاماً: رحم الله تعالى الشيخ البوطي وأحسن مثواه، ومهما كانت آراء ناقديه فلا ننسى أنه كان أحد كبار جنود الإسلام المخلصين. نقلا عن صحيفة الاتحاد